صيحة “القفز من المقلاة”

بقلم : الدكتور مسعود بوحسين

صيحات الثقافة: “القفز من المقلاة”.. أو أساطير المتأخرين.
مشكلة بعض مثقفينا أنهم يتكلمون على السياسات الثقافية التي ينبغي أن تكون دون تصور واضح. وأضحى لوك هذا الكلام سببا مباشرا في تبخيس المسعى وجعله أداة لإفراغ المطالب الثقافية من مضامينها…

الكل ينادي في جوقة غير منسجمة الأصوات لكي يسمع صوته “العذب” وحيدا في خيلاء فتصبح الترنيمة متنافرة الاصوات.
الأصوات النشاز تتهرب من عمق الاشكال الذي يبقى تقنيا وليس مطلبيا، وكلما بدت هناك إشراقة أو مسار، إلا وتم تحريفه أو نسفه أو عرقلته بإعادة طرح الحاجة إلى تحقيق نفس المطلب…

الكل ينادي ولكن القليل جدا من يملك تصورا، وحتى لو افترضنا امتلاكه- وهذا أمر نادر- فكن متأكدا أن من سيرفع عقيرته فيما بعد هو من سينسفه أو سيتجاهله في انتظار أن يمتلك “شرف” السبق والفرادة لمدة قصيرة بعد أن عوم النقاش وعاد به إلى نقطة الصفر.

الدولة تحتاج مخاطبين “عارفينها باش منفوخة”، تحتاج أجوبة عن: كيف؟ ومتى؟ وكم؟ وماهي التزامتك والتزاماتها؟… تحتاج منك لكي تقنعها أن تكون أو تضغط عليها أو أن تستدرجها أو أن تؤثر في قرارها أن تتسلح برؤية وأن تكون قادرا على المساهمة في بنائها وأن تقنع بها نفسك قبل أن تقنعها.

مشكلة بعض المثقفين والفنانين المغاربة أن النرجسية تقودهم فرادى أو تحت يافطة هيئات قد تحمل أحيانا أسماء غليظة وما هي بغليظة، اجترار نفس الأسطوانات القديمة المهترئة في حرب تموقعات فارغة تملأ بها بعض المواقع والجرائد صفحاتها ونبينا عليه السلام. تصبح فيها إثارة القضية في حد ذاتها غاية لأن من يريد حل قضية عليه أن يستحضر ماضيها ولربما كان من الأحرى أن يسأل: ما مصير الرسالة التي وجهها المغفور له الحسن الثاني لرجال المسرح؟ من أفشلها؟ ما مصير النداء الذي وجهه الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي منذ سنوات؟… ما مصير مشروع الخطة الوطنية للمسرح التي أعدتها النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية؟ ما مصير مشروع المغرب الثقافي الذي أعدته وزارة الثقافة مع خبراء في جميع الميادين على عهد الوزير الصبيحي؟ ما مصير مقترحات النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية في ما يخص الحماية الاجتماعية للفنانين؟ ما مصير العشرات من مقترحات النقابات والهيئات الفنية الجادة؟ ما مصير مقترحات مؤسسة الفنون الحية (نور الدين عيوش: الذي أعد تصورا في الموضوع)؟

ما مصير الكتاب الأبيض للسينما المغربية؟ ما مصير عمل جمعية “جذور” لمدة طويلة في نفس الموضوع؟ ما مصير خلاصات مناظرة اتحاد كتاب المغرب؟… ما مصير خلاصات مناظرة وزارة الثقافة وفرع الصناعات الثقافية لاتحاد مقاولات المغرب؟

هذه مبادرات – وإن كان البعض منها مهرب- ففي جلها جدية ومعقولية تتجاوز المطالبة إلى الاقتراح… لماذا لم يتم تنزيلها؟ الجواب بسيط: لأنها تعرضت للتبخيس والتجاهل و”التنقاز من المقلة” ولم تدعم بما يكفي من طرف من ينتظرون الفرصة لكي يغردوا خارج السرب… ويجتروا نفس الكلام دون روح ومضمون ودون أفق ودون الالتزام بمسار طويل تهدر فيه الطاقات والجهود بسبب قصر النفس والنظر.

المحصلة: الأفكار الجميلة تقبرها الأنا المتضخمة لكل حالم بالتفرد… التفرد فقط لا غير… من المفروض في الجسم الثقافي المغربي أن يكون قد حسم في خياراته منذ مدة وألا يختلف في القضايا المبدئية والمصيرية، وألا يلوح بها فقط كتكتيكات تواصلية.

ما يقوم به البعض في الوسط الثقافي يكرره الوزراء المتعاقبون، كل واحد يريد أن يعيد اكتشاف العجلة، نداءات، لقاءات، أيام دراسية، كتب بيضاء، وتوصيات، و”شرب أتاي وكول الحلوى والله يمسيكم على خير وغنديرو خلية التتبع”، وخلية التتبع هذه لن تجتمع إلا في حصة واحدة كلها شكوى ومطالب وبعدها يذهب القوم إلى مشاغلهم… بل وحتى عندما يحين وقت الجد والعمل، وقت الأجرأة التقنية، يعجز القلم المدرب على تدبيج البيانات عن كتابة فقرة يتيمة تقنية، لأن الواقع هنا يتطلب دراية ومعرفة وبالتالي يسعى للعودة إلى نقطة الصفر التي يتقن اللعب فيها… وكما يقول المثل المغربي “ما بعيدة غا تازة”.. ما يعيشه الجسم الفني اليوم من أزمة اجتماعية خانقة كان بالإمكان تجاوزها لو تم الحرص التقني على تنزيل أهم ما في قانون الفنان (المادة 20 الخاصة بالحماية الاجتماعية) ولو بنصف الحرص المركز على دعم بئيس فوق الطاولة أو تحتها، لكان الفنانون المغاربة الآن في منآى عن نوائب كرونا الاجتماعية…. من عطل النصوص التنظيمية الأخرى لقانون الفنان؟ من كرس كل طاقته السلبية لعرقلة إصلاح المكتب المغربي لحقوق المؤلف؟ من كان العدو اللذود لتنزيل الحقوق المجاورة حتى لا يقتسم الفنانون المؤدون تلك “البركة” مع المؤلفين؟ على كل حال الوقت بفضح من هؤلاء الوسط الفني وكذا في دواليب الإدارة…
هذه حقائق مرة تبين أن الحل في العمل التقني وفي الترافع في ظل نذرة الكفاءات المتخصصة في الهندسة الثقافية.

هناك أساطير كثيرة في هذا الملف منها اسطورتين اساسيتين:
1- انعدام الإرادة السياسية: وهو أمر غير صحيح تماما، ويتم التلويح به لتبرير العجز عن صياغة المقاربات المناسبة وابتكار الحلول الممكنة.. ففي رأيي الإرادة السياسية متوفرة، وفي اعلى المستويات.. لكن هذه الإرادة لا تجد إلا من يعرقلها بإهدار الأزمنة الحكومية في “شذ ليا نقطع ليك”، وفي التلكؤ في الانخراط الجدي في خدمة القضية… ما ينقص في هذا الباب هو الجرأة السياسية، بمعنى أن يفكر الفاعل السياسي أن القضية الثقافية في المغرب هي قضية شعب وأمة قبل كل شيء، وليست قضية فنان أو مثقف فحسب.

جميع المجالات في بلادنا تقدم كحاجة اجتماعية ويكون وراءها أحزاب ومجتمع مدني يطالبون بتطوير ذلك المجال كحاجة اجتماعية إلا الثقافة التي تبقى دائما مطلبا للمثقفين وحدهم. وبما أن في المثقفين نفسهم شيعا وقبائل فلكل مثقف تصور في مخه فقط، تصور أشبه بالقصيدة أو المسرحية أو القصة الخ، في حين أن الموضوع موضوع تدبير وقانون وتشريع وهيكلة واقتصاد..
الجرأة السياسية المفقودة هي وضع المثقف في حجمه القانوني والمعرفي، أن تكون لاعبا لكرة القدم شيء وأن تهندس الملاعب شيء آخر… الجرأة السياسية الحقيقية تتطلب أن يكون الفاعل السياسي عارفا لحقيقة مرة في المجال الثقافي، هي أن الكثير مما يلاك هو حقائق نفسية وليست موضوعية بالضرورة. حقائق نفسية مليئة بالإحباطات والانكسارات التي تسعى بقدرة قادر أن تصبح تصورا، وقد يجد الفاعل السياسي نفسه ضحية ذلك الضغط “الهيلماني” المشبع بالأنا المتضخمة والذي يقوده في نهاية المطاف أن يترك الجمل بما حمل وأن يعد السنوات المتبقية على رحيله حتى لا يغضب سيادته.

2- غياب سياسات ثقافية: هذه أيضا من الأساطير المؤسسة لغياب حركية ثقافية مغربية قوية… ليس هناك مجال للحديث أصلا عن سياسات ثقافية في المغرب. لأن السياسات الثقافية تصورات واختيارات وتوجهات، تحتاج آليات ومؤسسات وقوانين لتنفيذها وتنزيلها… بمعنى آخر تحتاج لآليات وهيكلة قانونية ومؤسساتية، وهذه الآليات هي المفقودة أو غير المكتملة… ولذا، فالقول بغياب سياسات ثقافية أمر لا معنى له، لأن الأساسي غير موجود أو غير مكتمل أصلا: وهو الترسانة القانونية والمؤسساتية الكفيلة بتحريك الحياة الثقافية… وعندما تتوفر هذه الترسانة، يمكن الحديث ءانذاك عن السياسات الثقافية والصناعات الثقافية… الأمر أشبه بمن يلعب في ملعب مليء بالأحجار وبشباك مثقوبة ويفكر كما لو كان الأمر يتعلق بملعب من آخر طراز.

الهيكلة الثقافية والجرأة السياسية هي التي نحتاجها اليوم، كما نحتاج إلى رؤية للثقافة كقضية مجتمعية تنخرط فيها الأحزاب والمجتمع المدني، ويلعب فيها الفاعلون الثقافيون والمؤسساتيون والمختصون دورا تقنيا، وهذا أمر قائم لكنه متعثر بفعل رهانات ليست ثقافية محضة، رهانات تعطل المسار ولو عن حسن نية بإعادة طرح نفس الأسئلة عوض البناء “طوبة طوبة”، تعطيل بدافع الخوف من الانتقال إلى مجال لا يسمح بالتموقع عن طريق تكرار المحفوظات…

وللحديث بقية.

عن صفحة (الناقد)