الشموخ الغيواني.. في ذكرى رحيل العربي باطما
الجديد نيوز: بقلم: د. حميد تباتو
حلت في السابع من فبراير ذكرى غروب الفنان العربي باطما، صانع أصالة الأغنية الاحتجاجية الجماعية بالمغرب، وأحد كبار الأصوات الإبداعية والغنائية المتميزة إلى جانب الراحل حقور بوجمعة.
العربي باطما كما ناس الغيوان في صورتها الأصلية، عنوان إبداعية خاصة، وعلامة دالة في تاريخ الفن المغربي، واسم طبع بامتياز مرحلة هامة من سيرورة الغناء المغربي الحديث. وقع با عروب مساره الفني من مداخل ثرية متنوعة منها الغناء، والكتابة السردية، و الزجل ، والكتابة المسرحية والتلفزيونية، والتشخيص …
إلا أن ما صنع بهاء حضوره هو إسهامه الفاعل داخل مدرسة “ناس الغيوان”. لقد صاغ العربي جوهر الأغنية الغيوانية، وبنى صدق التجربة وأصالتها رفقة الأسماء الرائدة لهذه المجموعة ،خاصة الذين غادروها إلى سكينة الموت مثل بوجميع، وعبد الرحمان باكو- أو ابتعدوا عنها في امتدادها كما الأمر بالنسبة لعلال يعلا. منح العربي لناس الغيوان روحا اطفأ بانطفائه، وهو ما جعل غناء المجموعة بعده يصير من دون طعم الغيوان الفعلي.
المقصود بالروح هنا كذلك هو ذلك العمق الإبداعي المتشكل من خلال خصوصية الصوت، والموال، والكلمات، وقوة الحضور، وما تبقى…
عمق يحيل على الدواخل الدفينة، ويشعل حرقة الحنين للأزمنة الهاربة، ويستدعي الذكريات المهجورة، ويرمم الكينونة الخاصة، ويحاصر اغترابها باستدعاء ما ينعش الحاجة لمتعة الإنصات العميق ، لما هو جميل وموحي ، بما في ذلك رائحة التراب ، وعطر الأحلام المستحيلة..
روح الغيوان هو أيضا ذلك الأثر الذي ينطبع في الدماغ، ويحرك فيك كل الذاكرة المدفونة. إنه النداء المهيج للوعة الاشتياق لقارة الحنين المنسية، و ذاك الشيء الذي لا يمكن تسميته وأنت تستمع لموال باعروب صادحا في كلمات و مواويل أغاني ناس الغيوان كما في:
-«نغمة مهمومة مثل طيف خارف تترامى.. الخلف… يا ويحي ضاع والرغاية رغات… أنتما الخيل وتعرف ركابها…أنتما الدنيا ويلا عواجت تجي بجوج رجلين وصايكها جربوع…واللي كال ذا العصيدة باردة يدير يدو فيها »(الرغاية )؛
-“ما همني ولا رشاني … غير فراق الصحبة …ما همني ولا رشاني لا ما للتربة…ما همني ولا رشاني…لا صابة لا غمرة …ما همني ولا رشاني …شمسنا ضوها جمرة””(فين غادي بيا)؛
-“جور الحكام زادنا تعب وقسوة … لا راحة ولعباد ف نكد وتعسيف/والحاكم كايصول كايقبض الرشوة…والشاهد كايدير ف الشهادة تحريف/ افهم المعنى وعيق و استافد واروى …هذا سر لكنان ما رامه تحريف”(سبحان الله)
-“الدم جف يا حسرة…والذات مازال حزينة/ يا ناس وما انتما ناس…يا الزايدين المهموم في همه…يا المعاونين الظالم على ظلمه”(تاغنجا).
-هو ما يقال عن بقية ما غناه باطما مع ناس الغوان كما “يا صاح”، و “النادي أنا”، و “مكواني يبك يا قلبي، أو “يا جمال”، و”مهمومة”، و”السيف البتار”، و”لسقام”… النداء الخاص في روح الغيوان هو ذلك الأثر الذي يبقى منه، والمتولد عن عناصر عديدة، منها تداخل الأصوات المتميزة مع نبرات ذات طعم خاص تصنعها خصوصية الآلات والعزف عليها، بالإضافة إلى أفق الانتظار الخاص بجيل من الغيوانيين، والذي انبنى على مرجعيات، وسياقات، وأجواء، ونوع خاص من الآثار منها ما هو جماعي. لهذا بالضبط قد لا يقول كل الزخم الغيواني أشياء كثيرة للأجيال التي لم تتعرف على خصائص السياق الذي أنتج باطما وأغاني ناس الغيوان، والتي تعمق البرمجة الإعلامية والثقافية والفنية، التي تشرف عليها المؤسسة المركزية، واستراتيجية تعميم الخواء في الوجود الاجتماعي اغترابها، فتبدو متنكرة جاهلة لما هو عميق، وغير مدركة لقيمته.
إن ما يؤصله روح الغيوان أكثر عند الجيل الذي ارتبط بهذه الأغنية، هو احتراف التجذر في تراب الأرض، والعبور الطبيعي من عنف الجرح إلى قوة الفرح أو العكس، تماشيا مع حال وحضرة الغيوان التي تتأسس على الأنغام الحزينة، والتغنى ب”خريف الأيام”، و”جرح الكية”، و”جوع الصبيان”، و”موت الرجال”، و”هدم البنيان” و”مسخ الفصول، وتسلط الحاكم”،و”قهر الإنسان” وردم معاني القارة الإنسانية …
رغم ملمح التباكي والتشاؤم الذي طبع ما غناه باطما مع مجموعته فذلك لم يكن من أجل تثبيت الانكسار، والسقوط، والتشاؤم، واللاجدوى، بل كان لغاية صياغة أمل، وأفق إيجابي لوجود إنساني ينطبع بالمحبة، والصدق، والأمان، والتضحية، والتآزر، والفداء، وعدم النسيان، لأن الأساسي بالنسبة إلى روح الغيوان هو ألا ننسى… لهذا قالت أغنية المجموعة “ما صابر علي مشاو أنا ما صابر.. صفايح في يدين حداد أنا ما صابر”،و”إلى كان ملقاك فالغيب مقدر نصبر، أو صبري فات العادة، ترى يا الأيام واش اللقاء قريب راه القلب مكدر”، و”لا لا خيي مازلت معايا، ولا أنا مصدق مازلت حدايا”.
لقد صاغ العربي باطما ترنيمة الوفاء والصدق والأمل، ولم ينشغل بمنطق التهافت كما الكثيرين، ومن بينهم ناس الفن، بل وبعض رموز ما نسميه بأغنية المجموعات، طبعا الكثير من الأشياء تغيرت الآن في وجودنا العام والخاص، ومن الطبيعي أن يفرض التطور منطقه على الجميع، بمن في ذلك كبار الرموز الذين أثروا في وضعنا، لكن لا نظن أن منطقا ما يمكن أن يقنع المتحمسين لصوت الأعماق والوفاء بأن أغنية ناس الغيوان لم تكن بكامل العضوية في الإنصات للزمن الذي أنتجها، و جراح أهله وبؤسهم، و أن ما يفيض به المجال الفني من قبح حاليا لا يمكن أن يغطي على عنف عطاء مجموعة غنائية وجهت حقل الغناء في المغرب بشكل كبير، وأثرت في تجارب عديدة في منطقتنا. لقد صنع العربي باطما زخم الأغنية الغوانية، وقيمتها، لهذا كلما صادفنا إنتاجات المجموعة بصيغتها الحقة في المجال الغنائي، أو بصيغة كتابة صادقة عن التجربة، أو استثمار في أفلام مغربية ومغاربية وعالمية عديدة، نحس أن روح الغيوان ساكنة في وجداننا. هذا بالضبط ما نحسه عند مشاهدة فيلم القلعة للمخرج الجزائري الكبير محمد الشويح، خاصة حين تردد إحدى السخصيات مقطعا من موال الغيوان يقول: “عدياني بكم نلالي، حافظ في ضميري شروركم، عشاق بيكم مكسوب بيكم نلالي… عدياني ياعدياني»، وهو ما ينطبق على الفيلم المغربي”الناعورة” وموال العربي فيه بعنوان “يادايع في أرض الله”، ونفس الشيء بالنسبة لفيلم “الحال” لأحمد البوعناني وكل ما خلفه الراحل من آثار في السينما، و الأغنية، و المسرح.
عاش باعروب لأجل العطاء النبيل، واالتعبير عن ما هو عميق، وكافح مع رفاقه لاستنبات روح إبداع أصيل، وهذا ما يفتقر إليه اليوم مجالنا الفني الذي فرض عليه الانهيار بشكل قسري،عبر الدفع بالتافه من الأسماء، و التجارب، والأغاني والأذواق للواجهة ليس رغبة في التجديد، أو تجاوز القديم بل لغاية إفناء ما هو جميل، ومعبر، ومختلف، ومناقض لرؤية المهيمن واحتياجاته. تقديرا للعربي باطما وعطائه نستحضره بكلمة في ذكرى رحيله،ونترحم عليه، ونحيي روحه، ونؤكد الحاجة إلى القلق الإبداعي الذي انشغل به في كل حياته حتى تبقى كلمة الغيوان شايخة في الوجدان و الذاكرة يا با عروب.
إيقاف شخص بأكادير لتورطه في الاتجار في الحشيش وترويج الكحول
تمكنت عناصر فرقة محاربة العصابات التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة أكادير، أ…