فسحة الصيف 29
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
بقلم : توفيق الوديع
انـفـراج … تـغـيـيـراتٌ … و رحـلات وداع أخـيـر
توفي محمد الوديع الآسفي يوم فاتح ماي 2004 وكان أول من زاره بالمصحة وهو يحتضر الراحل عبد الرحمان اليوسفي
” آمَنْتُ بالتّغيير و بضرورة العمل على تقوية التنظيمات الحزبية، مع التحذير من مغبّة الانتقادات الدّاخليّة المجانية، التي لن يكون من نتائجها إلا إضعاف الحزب، و هو مُراد تلك الّلوبيات التي أحسّتْ بخطورة تواجُدنا في قَلب إدارة دفّة الحُكم بعد أربعين سنة من الإبعاد، و كان همُّها تكسير شوكة التنظيم الوطني الذي قاوم المستعمر و استمر في النضال على كل الواجهات حتى تمكن من التّوافُق و أعلى سلطة بالبلاد، التي اقتنعت بأنَّ مستقبل المغرب لن يكون مستقرا إلا و حزب الاتحاد الاشتراكي قد تسَلم التسيير الفعلي عبر حكومة يديرها وطني من طينة عبد الرحمن اليوسفي ”
حلّت الانتخابات البرلمانية صيف 1997، استمرّ توفيق، كـثـرت الألوان و تعددت البرامج و كانت القصيدة التي عبرت خلالها، يا آسيّة، على موقف الشارع المغربي و التي قلت فيها :
كـــفـــى … كـــفــى مـــن الــصّــخــب
بـــــربّـــــكُــــم قـــــولـــــوا لـــــهُـــــم
كـــــــفــــى مــــــن الـــــزّعــــــيـــــق
فـــإنّــهــم قـــد خـــدشـــوا أســمـاعــنـا
و أرهـــــقـــــوا أعـــــصـــــابـــــنــــا
و عــــــكّــــــروا مـــــــزاجــــــنــــــا
و أزعــــــجــــــوا وجــــــدانـــــنــــــا
و مـــزّقــوا أشـــلاءنـــا… شـــظـــايــا
و اقـتـحـمـوا فـضـاء لـيـلـنـا الـحـزيــن
قــولـوا لــهــم شــيــئــا مــن الـخــجــل
و حــــيــــثُ أنّ مــــن نُــــحـــبــّـهــــم
و يفهمون في مشاكل البلاد قالوا لنا …
فـإنـنـا … ســنـمـضـي إلـى الإقـتـراع،
و طــبــعـا ســنـُسـهـمُ فـي الإخــتــيـار
فـهـل يـا تُـرى سـنسـمعُ صمـتـكـم مرّةً
و إرهــــاف ســــمــــعــــكُـــم مـــــرّة
و إصغاءكـم و لـو مـرّة لأصواتـنا …
* * * * *
تبوّأ حزب الوالد أولىَ المراتب، و تفعيلا لمُقتضيات الدّستور الذي حاز على شبه إجماع، آلت الوزارة الأولى لحزب الإتّحاد الإشتراكي في شخص كاتبه الأول صديق العائلة …
استقبل الملك الحسن الثّاني من لقّبه تاجر سلاح و هو يُقدّمه لولي عهده آنذاك و لم يفُتْهُ التّأكيدُ على أنّه وجَبَ اعتباره بمثابة الوالد …
عادت الجلبة إلى المنزل، فالكثير من مشاريع الوزراء حلوا للسؤال و جسّ النبض، خصوصا و الوزير الأول حافظ على زياراته الاستشارية فقد كان عبد الرحمن يلقّبُ الآسفي ” بالتِرْمُومِتر ” لأنّه كان الأكثر قربا من نبض الشارع .
ظلّ الوالد صموتا، كتوما، لا يعطي رأيا إلا إذا استُشير و بطريقة غير مباشرة كان ينصح بهذا و يحذر من ذاك .
” إلا الإستوزار يا والدي، فقد وجب أن تبقى على الحياد، و من خارج الحكومة، حتّى تستطيع الحفاظ على مسافة تَسمَحُ لك بالاستمرار في تلقّي آراء المواطنين و تأطيرهم كذلك، و أصلا أنت لا تليق لمثل هاته الوظائف السّاميّة ” نبّهتْ آسية الوالد، و هي تستشف من إحدى زيارات عبد الرحمن إمكانية اقتراح اسمه لمنصب سام …
طبعا لم يُفاتح عبد الرحمن محمّدا أبدا في الموضوع … خصوصا و أنّ الأخير كان يدفع في اتجاه تشبيب المسؤولين، مع الحثّ على وجوب تفَرُّغ من هم أكبر سنا لتأطير شباب الحزب، و أن المعركة من أجل مغرب حر و ديموقراطي، وجب أن تستمرّ بطُرُق أخرى مُغايرة بعد المصالحة مع القصر . فالّلوبيات المناهضة للتّغْييرلن تسمَحَ لهؤلاء الوطنيين بالاقتراب من محيط الملك كثيرا، و ستُعدّل طبعا من طريقة عملها حفاظا على مصالحها .
كان يوم تنصيب الحكومة متميزا في المنزل العائلي، فبعد أربعين سنة من تعيين أول حكومة وطنية برئاسة الوطني عبد الله ابراهيم، ها هو عبد الرحمن يتبوأ المنصب عن جدارة و استحقاق، و في لحظة من اللحظات بلغ التأثر بالآسفي حد البكاء فقد كان يتمنى أن تشاركه ثريا ذلك الحدث التّاريخي .
لم تكن حكومةً اشتراكية بل ائتلاف مجموعة من الأحزاب الوطنية أملته الظّروف الخاصّة للبلاد، أبرزها الحالة الصحيّة الحرجة للملك، و هشاشة الاقتصاد الوطني … لامجال للمحاسبة الدّقيقة إذن، و كوطنيين وجب وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، هو موقف عبد الرّحمن اليوسفي الذي لن يحيد عنهُ …
كان التّقدير الملكي لوزيره الأوّل واضحا، خصوصا و الملك يحرص على عيّادَته في غُرفَته بمستشفى ابن سيناء، بعد أن تعرّض الأخيرُ لنزيف دماغيّ مُفاجئ، فكانت رسائلُ واضحة .
كثر اللّغط طبعا، فبين منتقد لطريقة اختيار الوزراء و عددهم إلى من اعتبر أن مدّ اليد للملك الحسن جريمة لا تغتفر بل و خيانة عظمى لكل شهداء حركة التحرير الوطنية …
” أنا أعـلـم جيّدًا أن عبد الرحمن واع بخطورة الخطوات الـتي يُقْدم عليها، و متأكّدٌ من صلاحها، و منخرط معه في قراراته، بعد كل مراحل نقاشاته مع القصر، فمثلما ناضل ضد الحكم الفردي، ها هو يُناضل اليوم من أجل مغرب متجدد و سترون جميعا صدق كلامي، و رزانة قرارات السي عبد الرحمن ”
هكذا كانت ردود الآسفي، على الأبناء الذين علّمهم النّقْد البناء، و حتى بعض الأصدقاء و الأصهار ذوو الاختيارات الرّاديكاليّة، تقبّلوا تحليلاته، معبّرين عن انتقادهم حيناً و مُحتجّين، في صمت، مرّات أخرى، و حين كان الاحتجاجُ َيبْلُغُ مدىً مُتقدّماً، كانت آسيّة تتدخّلُ مُحافظةً على تقليد ثريا، احترام اختيارات الوالد، و آرائه مهما كان …
و رغم كل الانتقادات كان التغيير واضحا، و كان الآسفي يكتفي بابتسامَته المُتميّزة و هو يُنصتُ، دون تدخّل، لأولئك و هم يصفون اليوسفي برَجُل المرحلة، الذي فرض على الَمخزن التّنازُل على كثير من الموروثات، التي كانت إلى حدود أيّام معدوُدة تقاليدَ مُسطَّر تحتها بخطّ أحمرَ لا تنفعُ معها أيّةُ مـمـحـاة، فـمـن طـريقة السلام عـلى الملك إلى القرارات الأولية، الـبسيطة و العميقة، في طريقة التدبير والتّسيير … و لأوّل مرّة نزع الوزراءُ عنهم تلك الهالة التي ألفها الجميع، وصاروا كأبناء الشّعب يرتادون كُلّ الأماكن العموميّة دون استثناء .
” آمَنْتُ بالتّغيير و بضرورة العمل على تقوية التنظيمات الحزبية، مع التحذير من مغبّة الانتقادات الدّاخليّة المجانية، التي لن يكون من نتائجها إلا إضعاف الحزب، و هو مراد تلك الّلوبيات التي أحسّتْ بخطورة تواجُدنا في قَلب إدارة دفّة الحُكم بعد أربعين سنة من الإبعاد، وكان همُّها تكسير شوكة التنظيم الوطني الذي قاوم المستعمر و استمر في النضال على كل الواجهات حتى تمكن من التّوافُق و أعلى سلطة بالبلاد، التي اقتنعت بأنَّ مستقبل المغرب لن يكون مستقرا إلا و حزب الاتحاد الاشتراكي قد تسَلم التسيير الفعلي عبر حكومة يديرها وطني من طينة عبد الرحمن اليوسفي ” تدخّل الآسفي موضّحا وجهة نظره من المرحلة .
و رحلَ الملك الحسن الثاني ذات يوم قائظ من أيام يوليوز …
كنت قد وصلت للتوّ من عملي، اَسترسل توفيق، و أنا حديثُ الأبوة كان لزاما الاطمئنان على الأم و ابنها بعد يوم طويل من العمل .
و أنا على الباب بادرتني أم أسامة بالسؤال عن سبب استرسال إذاعة القرآن الكريم على القناتين منذ وقت ليس باليسير …
” إذن لقد مات الملك ” كان ردي عفويّا، فقد كُنتُ على علم بالحالة الصحيّة الحرجة للرّاحل، و دون تردد حوّلتُ نحو إحدى الإذاعات العربية التي أكدت الخبر …
لم أفكر كثيرا، رفعت السماعة و اتصلت رأسا بك يا آسيّة، و كان صَوْتُك حزيناً على غير عادته …
“هلْ عَلمْتَ بالخبر ؟ … لا حول و لا قوة إلا بالله … يجب أن تتصل بالوالد لإخباره … و كن حريصا على نفسيته فحتما سيتأثر كثيرا لهذا الرحيل ”
و أنـا أضع الـسماعـة، عـادت بي الـذاكرة لـما يـزيد عـن عـقـد و نصف… و بالضبط سنة 1983 … كانت ثريا تتابع مراسيم جنازة الأمير مولاي عبد الله حين انخرطَت في بكاء مُرّ و هي تتفاجأ لانهيار الملك الحسن على نعش أخيه باكيا فـراقـه، و هي الحالة الإنسانية الـتي لـم يـعـرفها عـنْهُ عموم الشعب …
” و لم تبكين يا والدتي، سألتها مُستغربا، فأنت لا زلت تُعانين من كل حالات القمع و الاعتقالات التي طالت إخوتي و رفاقهم و رفاق دربكم كذلك، و حتى كل الاغتيالات … لا يجب أن تحزني … واش عرفك شي واحد و انتي مكرفصة و مريضة “… كُنتُ في حالة من الغليان، انـتـابـتـني و أنا أكتشفُ حالة الحزن التي كانت عليها …
في هـدوء متميز دعـتـني و أجلستني إلى جانبها، و هي تـربت عـلى كـتـفي و قالت .
” أتفهم جيدا حالة النرفزة التي انتابتك في هاته اللحظات، و لكني أوصيك يا ولدي و أذكّرك أن للميت حرمته، و الملك فقد أخا عزيزا و صَلّى عليه بعد أن وقف الجميع وراء النّعش قائلين ” جنازة رجل “، صار الأمير كجميع الناس … و للملك الحق في الحزن على هذا الفراق … فقد أخاهُ الوحيدَ، و يجب أن تعلم أنه رغم خلافاتنا وجب أن يبقى احترام أحزان الجميع واجبا، فهي الأخلاقُ التي تُمَيّزنا .
لـقـد ناضلنا من أجل رجـوع العائلة الملكية إلى وطنها و الملك إلى عرشه، و أقمنا الأفراح عند عودتهم لأننا كنا و لا زلنا مقتنعين بأن في ذلك خير للوطن و رغم اختلافاتنا السياسية التي أدت إلى كثير من الأخطاء، فإننا سنظل نناضل من أجل ملكية برلمانية إلى آخر رمق مع احترام الاختلاف و لهذا لا أرى ضيرا في التعبير عن حزني العميق لرحيل هذا الأمير … أنا حزينة يا ولدي … حزن الملك على رحيل أخ …”
عاد بي صوت للاّ خدّوج إلى الواقع و هي تردّ على هاتفي …
” توفيق، لقد علمت بالخبر عبر جارتنا الإسبّانيّة، و لم أجرؤ على إخبار الوالد فأنا متوجسة من أثر الخبر على صحته … أرجو أن تأتي الآن لإخباره …”
للا خـدوج هي الـزوجة الـثـانـيـة للوالـد، متعددة الـثـقـافـات، أحبّت الآسفي و أحبها و عملت جاهدة لتعويض فقد خاص، و تفوّقت رغم اختلاف الثقافات … نسجَتْ علاقات خاصة مع الأبناء، رغمَ مزاجيّتهم … و مع ذلك نجحت، و صارت جزء لا يتجزأ من العائلة .
كانت منبهات السيّارات قويّة، و الازدحام منقطع النظير، عبّرت من خلاله ساكنة البيضاء عن قصر نظرها، فقد توجست من احتمالات سوداوية، تُلَخّص عدم ثقة المغاربة في كل الأجهزة النظامية … و ذلك راجع إلى السّياسات التي اتُّبعت، منذ زمن طويل، و التي اختزلت استقرار البلاد في شخص الملك .
عـلى باب المنزل كان الـوالـد حاملا مـذياعـه الأسـود الذي لم يكُن يفارقه، و هو يستمع باستمرار لنشرات أخبار مختلف القنوات الإذاعية، و كنت تخاله شاردا غـيـر مـتـتـبـع، و صوت الـمـذيـع استحال سَمْفونية لا تفارقه، و صار المخدّر الذي بدونه لن يقو على الاسترخاء .
” لقد مات الحسن أليس كذلك يا توفيق ؟ … و أظن أن أصوات أبواق السيارات ناجمة عن هلع الساكنة من … لا شيء، و هذا ما حذرنا منه منذ عقود … أن تُجْعل جميع السلط في يد الملك … ليس في صالح الملكية … نادينا بمبدأ تفريق السلط، و تعرضنا للقمع، و من أجل جعل المعلومة في متناول الجميع … مُنعْنا … قَلبُنا على هذا البلد … و أضاف
رحم الله الملك، و أظن أن من أحسن إنجازاته هو هذا التناوب التوافقي الذي جعل حزبنا يدير دفّة الحكم في هذا الظرف الحرج … هو اعتراف لنا بمطالبنا السابقة و اللاحقة … و لهذا يجب أن تعلموا أنتم شباب المغرب أن مسؤوليتكم ابتدأت من هذا اليوم، حزبنا سيسهر حتما تحت قيادة الوزير الأول على تمرير سلس للسلط، و ستبقى عليكم مسؤولية الاستمرار مع الخلف، فولي العهد الذي صار اليوم ملكا، ستقتصر مسؤوليّاتُهُ على تدبير الحاضر و طبعا السهر على المصالحة مع الماضي دون تحميله مسؤوليَّات لم تكنْ لهُ يدٌ فيها .
لقد ظهر جليا أن عبد الرحمن فهم المراد عند اجتماعه و الراحل ذاك اليوم و كان قبوله للمسؤوليّة تحديّا وطنيا، فغلّبَ مصلحة المغرب على مصالح حـزبـيـّة ضـيـقـة، و كان يعـلمُ جيّدا أنّ موقفَه سيُعرّضُه لانـتـقـادات حـادّة و خلافات ربّما عصفتْ بتاريخه النّضالي، و لـن يُفْهَمَ قرارُهُ إلا بعد أجيال، و لكن الكُلّ يهون في سبيل استقرار البلد “.
كان الوالد يعطي تحليلا دقيقا للحاضر و المستقبل مدافعا بعقلانية عن اختيارات و قرارات القيادة الحزبية و التي كان متشبتا بها محيلا إلى وقائع مصيرية سجلها تاريخ الحزب منها الاختلاف الجوهري الذي ظهر بين الشهيدين عمر بنجلون و المهدي بنبركة في اجتماع حزبي حاسم سنة 1963 و الذي عبّرخلالهُ عمر عن رفض قاطع للمشاركة في الانتخابات التّشريعيّة لتلك السّنة، و حين صوّتَتْ أغلبية أعضاء اللجنة المركزية لصالح المشاركة، صفّق عُمرُ طويلا … بل و أصرّ على صياغة البيان الختامي الذي انبهر له مؤيدو المشاركة قبل معارضيها فكانت الصياغة أصـدق مـن كـلّ البيانات الـتي صيغت بأقـلام مؤيديها، و فـيها قال المهدي و هو يُـعـانـقُ عُـمـَر ” لـو كُـنتُ صغـت هذا البيان لما جاء بهاته الحـماسة و القوّة .”
كانت مراسيم تنصيب الملك حضاريّةً و غير مسبوقة، توقيعات العائلة الملكية، و كبار مسؤولي الدولة كل حسب موقعه و كانت خطوة التّغيير الأولى … و بقدر حجم المصاب الجلل بقدر، الزهو الذي ظهر على الملك و وزيره الأول و هما ينجحان في أول تغيير في تسليم مقاليد المملكة … دون صخب و لا جلبة و في لحظات عصيبة .
كانت الجنازة عالميّة … تتبّعتها مختلف القنوات، عبر المعمور و لم يتخلف عن تتبعها أي فرد من أفراد العائلةٌ حيثما وجد …، بتأثر بلغ بنا جميعا مبلغا لم يكن منتظرا …
كانت الرغبة واضحة مـن أجـل الـبحث عـن أطر وطنيّةً في كلّ المجالات، و في هذا الصّدد اقْتُرحَ على آسيّة العودة من حيث بدأت قبل زهاء ربع قرن … سلك القضاء … هي التي كانت تعتبر أن العمل من داخل الإدارة ضرورة للإصلاح … و كان لها ما أرادت … عُيّنت بالمجلس الأعلى للقضاء، و صارت تبحث عن المجال الذي سيحقق طموحها الذي لا حدود له .
لم تكن طبعا تستلذ بالكراسي الوثيرة، و المكاتب المكيّفة، بل فضّلت ،عند الاختيار، التكلف بالأحداث و بإصلاحيّات المملكة، و كان البدء بإصلاحية عكاشة بالبيضاء .
محاربة القوى التي نشأت عند وفاة الملك و كُلُّها رهبة من مستقبل سيأتي إن عاجلا أو آجلا على مخططاتها، هي المعركة التي انخرطت فيها كُلُّ مُكوّنات اليسار بدون استثناء، بين فاعل مُباشر و آخرُ اختار المُعارضة النّقديّة حفاظا على توازنات البلاد .
صلاح، إدريس بنزكري وإدريس اليزمي … و مجموعة من رفاق محنتهم من مؤسسي منتدى الحقيقة و الإنصاف، انتبهوا للتّغيير الذي يتلمَّسُ أولى خطواته، انخرطوا طبعا من أجل إنجاح تجربة آمنوا بتفرّدها في العالم العربي … و كالجالسين على الجمر اختاروا قراءة صفحات من تاريخ المغرب عاشوا بعضا من قساوتها،أخذوا على عاتقهم انجاح التّصَالح، مع الذات، وإنصافا متوافقا عليه، من أجل المبادئ التي حلموا بها و هم بعد مراهقون … و هكذا تحول المعارضون الأشاوس إلى منخرطين في البناء الديموقراطي بمجرد التقاطهم لأولى الإشارات رغم تحذيرات رفاق الأمس بأن رصيدهم النضالي في خطر و كان رد إدريس حازما و جازما
“وما جدوى أي رصيد إن لم أجعله في خدمة وطني؟ “.
جالوا البلاد طولا و عرضا بحثا عن الحقيقة و إنصافا للتاريخ، للوطن …
جلالة الملك رفقة أسية الوديع في زيارة لإحدى المؤسسات السجنية …
عادت آسيّة إلى السّجن حُرّاسَهُ و ساكنيه، هي التي عرفت دهاليزه و هي تزور الوالد و أصدقاءه في طفولتها و إخوتها ورفاقهم في شبابها .
منذ تعيينها على رأس إصلاحية الأحداث عكاشة، لم يعد يغمض لها جفن إلا و قد أعدت دراسات و وجدت حلولا لمشاكل معقدة … و للمساعدة كان ضروريا الـتـفـكـيـر في خلق جمعية غـير ذات نفع و التقرب من الخواص و المحسنين لعرض مشاريع مقنعة و تمويلها لصالح السجناء .
كانت النواة مكونة من بعض أفراد الأسرة و كثير من الأصدقاء الذين صاروا إخوانا بحكم القاعدة التي أسس لها عميد الأسرة، فمن انخرط معه من أجل المصلحة العامة هو أقرب له من أي كان و لو جمعتهما صلة الرحم .
كان واضحا أنّ تحقيق أهداف تحسين ظروف حياة السّجناء و حرّاسهم سيكون عسيرا، تدخّلت آسية، و كان يلزمنا نضال من نوع آخر لتحرير البلاد من هاته العقلية و الذهاب بها إلى الأمام … أتمنى أن يستفيد من عملنا حفدتُنا، كما نستفيد اليوم من نضالات آبائنا … و كان الله في عون السي عبد الرحمن فقد حارب على جميع الواجهات الإخوة قبل الأعداء .
صرتُ قريبةً من السجناء خصوصا الأحداث منهم، و اختاروا مناداتي ب” ماما آسية ” و كان من أفرج عنه لا يتردّد في زيارتي في منزلي بحثا عن حلول تحميه من عودة محتملة … لم أعد ملك نفسي فالشباب كان متعطشا لمجرد الاستماع لهمومه و حين وجد ضالته فيَّ لم يتردد .
سهرتُ على حملات النظافة أوّلا، و أنا أكتشف مطرحا للأزبال في ساحة خلاء داخل فضاء السجن … لم أحتمل أن يظل المعتقلون داخل زنازينهم في حين أن هناك مجال لتزجية الوقت و لو بالتنظيف، كان يوم خروجهم لهاته العملية يوم عيد بالنّسبة لهم .
” تصوروا أن الأطفال طاروا فرحاً لأننا سمحنا لهم بالخروج لجمع الأزبال، و عبّروا عن أمنيتهم أن نبحث لهم عن مطارح أخرى لتنظيفها “.
دامت عمليّةُ التنظيف أياما اكتشف مسؤولو الإصلاحية بعدها أنهم يملكون أرضا صالحة لبناء منشآت عديدة .
” أجي دابا، بغيتك فالإصلاحية … و هذا أمر مستعجل، و أُقْفل الخط الذي كُنْتُ على طرفه الآخر ” استطرد توفيق
اعتذرت عن مواعيدي طبعا و قصدت الإصلاحية .
كان يوسف قد وصل قبل حين فقد تلقى نفس الأمر …
” الملك سيزور الإصلاحية غدا … وجب التنظيف و التحضير لقد تحقق الحلم الذي طالما تمنيت … أنتما من سترافقاني في مهمة السّهر على عمليّة التّحضير للزّيارة ”
” ليست لنا أية صفة، يا والدتي، نحن في فضاء سجني ممنوع.” لاحظ يوسف مستغربًا
” واش بغيتو تعاونوني و لا تخليوني بوحدي … و حتى انت أ توفيق … شّتّكْ راجع للّور “.
كان الليل طويلا، و عرف انخراط الجميع في السّهر على أدق تفاصيل النّظافة و التّرتيب ، فبرنامج الزيارة يحتمل العديد من المفاجآت …
” هل تعلمون آخر مُستجدّ ؟ ” سألتنا آسيّة و هي تبتسمُ و عيناها مُبلّلتان بدموع الفرح، و دون أن تنتظر ردّنا
” سيعمل الملك على تدشين مشروع لفضاء تكويني في الأرض التي نظفنا بأيدينا، لقد حضّروا الـتـّصـامـيـم الأوّليّة بفائق السّرعة … الله يّـعـزّ لـْحْـكـام وْ صافي “.
” أظنّ أنّ الطّريقة المُتّبعة فيها شيء من الارتجاليّة و عدم التّدبير، فهاته المشاريعُ لا أظنُّ أنّهُ كان مُسطّرٌ لها قبل برمجة الزّيارة الملكيّة، و أظنّ أنّه وجب علينا تغيير المفاهيم … و هادشي ماشي معقول أختي .”
” نحنُ في بداية التّغيير، يا توفيق، و هذا واضحٌ، ما فيها باس نديرو شويّا ديال الفوضى من أجل السّجناء، سترى بأنّ الجميع سينخرط في هذا العمل الإنساني بمُجرّد تبنّي الملك لهذا المشروع الهائل، و ذلك مُرادُنا.”
حضر الملك للسجن، و كانت آسيّة أولى المستقبلات … تُسابق الزّمن.
و كان لقاءً خاصّاً بملك مُتفرّد …
في الموعد المحدد بالضبط، ترجل الملك من سيارته و توجه نحو الوفد الرسمي الذي كان في استقبال أوّل ملك علويّ يزور سجنا من سجون المملكة، و في أوّل الصّف تقدمت مستشارته، التي سهرت على برمجة الزيّارة، لاقتناعها بالفكرة و سُمُوّها، و في نهاية الصفّ كانت آسية تنتظر دورها و كان السّلام خاصا و رائعا، فبملئ يديها شدّت على يد الملك بحرارة و قوّة و هامتُها في السماء كأنّها تشكر الرّبّ على تلك الزّيارة .
كان مبتسما و بنظرة خاصّة التقطتْها في حينها، طلب منها مرافقته في جولته تلك، و دون ارتباك أجابته عن كل أسئلته البسيطة و العميقة .
لم يحترم البروتوكول، و لا البرنامج المسطر … و هامسا طلب منها زيارة الزنازن …
كانت قد درست كل الاحتمالات و عملت على تحضير المفاجأة….و بمجرّد ولوج الوفد لفضاء الزّنازن صدحت جميعُها بالنشيد الوطني … و في الحين التقت عيناها الدامعتان بعيني الملك الشابّ، الذي ترك أحاسيسهُ تُعبّرُ عن نـفـسها، ظهرت عـليه علامات الـتأثر … كانت لحظة تشي بتواطئ خاصّ و وطنيّ بين الملك الشابّ المُقبل على التّغيير، و الفاعلة الجمعويّة، لم يجمعهما إلا حبّ خالصٌ للوطن، و نضال من أجل الإنسانية .
انتهت الزيارة و اتجه الملك نحو باب السجن، و عند المغادرة كان الفراق بالعناق و القبل على غير عادته في الزيارات الرسمية … و كانت المفاجأة الـتي أذهـلت الوفـد الـرسمي فحـتى الأمير المرافـق حيّاها بنفس الـحـرارة و البساطة الحميمية .
“ما رأيك يا توفيق” سألتني بمجرّد نهاية الزّيارة
” كنت رائعة يا آسية و كان أخا قبل أن يكون ملكا …”
بالفعل، كان ودودا، سائلا … متواضعا …
بالطبع كانت العيون منتبهة و مشمئزة من هذا التقارب … خصوصا و أنه عاطفي و عميق .
بعد الإفطار و كانت لا تزال تعيد على مسامع من حضر تفاصيل الزّيارة الملكيّة و دقائقها، و تتجه نحوي لتأكيد حكايتها . حضر صديقٌ للعائلة، مستشارٌ في وزارة العدل و بنبرة لا تخلو من مُؤاخذة قال :
” و لكن طريقة لباسك و سلامك على الملك أثارا قلق التشريفات و قد جئت لتبليغك عدم الرضى عن تصرّفك ذاك، و لهذا وجب البحث عن طريقة للاعتذار لجلالة الملك .” كانت هي الرّسالةُ المُحبطة التي حرصوا على إيصالها و آسيّة في أوج نشاطها.
بَكَت بحرقة، لم يتركوا لها لحظة للانتشاء باللقاء، هَلَعَتْ لأن همّها كان الاستمرار في التكفل بالأحداث … و قد كانت عفوية في اللقاء … لم تتقبّل التّبعات المُحتملة لمثل هاته المُلاحظات .
” يستحيل، يا آسية، أن يكون الملك قد جزع أو قلق من طريقة تصرفك هي فقط تلك الّلوبيات المحافظة و المسؤولون المباشرون تلقّوا الصفعة بانخراط الملك في مشروعك الحداثي … و الذي حُوربْت و أنت تضعين أولى خطواته .
رَافَقْتُك إبان الزيارة و كنت قريبا منكما، أكاد أجزمُ أنّهُ انخرط في مشروعك انخراطا كُليّا، و لا أدلّ على ذالك طريقةَ وداعه لك على باب السّجن و هو يستعد للمغادرة . إنّهُ تضامن مُطْلق معك . ” كُنتُ أُعبّرُ عن قناعتي و أحاسيسي و في قرارة نفسي توَجُّسٌ من ردود فعل لا نعلم عنها شيئا، فنحن أمام المجهول …
لم تنامي الليل كلّه، لا عشاءً و لا سحوراً رغم أن الأطباء نصحوك بعدم الصوم، و خصوصا الانتباه إلى جودة مَعيشك.
بالفعل يا توفيق، قررتُ تخصيص اليوم الموالي للراحة و التّفكير، في إيجاد حلّ للمُشكل الذي لم أضعْهُ في الحُسبان و أنا أتصرّفُ بعفويّة، إنّهُ الملكُ،على كُلّ حال، و كان من الواجب الانتباهُ لكيفيّة التّعامُل، ففي قرارة نفسي لم أكُن أُعيرُ لما أسموه خطأ كثير اهتمام، فالمُهمُّ كان و سيظلّ أنّ الملك اهتمّ بموضوع السّجون و السُّجناء، و لن يكون هناك تراجُعٌ عن قرارات كهاته، أمّا عن ” الخطأُ البرتوكولي ” فسأتحمّلُ مسؤوليّته مهما كانت النّتائجُ .
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف نهار اليوم المُوالي حين رن جرسُ هاتفي الخاص .
” ألو من على الخط ؟
” أستاذة آسيّة الوديع ؟ … معك الكتابةُ الخاصّةُ لصاحب الجلالة، أرجو أن تلتحقي بالإقامة الملكيّة بالبيضاء على السّاعة الخامسة مساء، و شُكرًا “.
” ألو يوسف لقد طَلَبَتْني كتابةُ الملك … ربّما كان الاستدعاء من أجل تنبيه رسـميّ، إذن فالمُستشار على حـقّ، و عـليه يجبُ أن أنتبه لـنوعـيّة ملابسي و طريقة ارتدائها … و إن قابلتُه كيف أسلّم ؟ أ أُقبّل يديه … يجب أن ترافقني فربّما تعرّضتُ لمكروه .”
” اذهبي آسية و تعاملي بعفوية، فالملك يحترمك و يقدّرك لشخصك … أقترح عليك ارتداء الفستان الأزرق المفضل لثريا و وضع منديل أبيض حول عنقك فشعرك الذي اكتساه الشيب سيزيدك جمالا و أناقة …” هذا كان رأيك يا توفيق .
أوصلني يوسفُ … و عند باب الإقامة الملكية طلبوا منّي الاستغناء عن هاتفي المحمول، و حقيبتي اليدوية … و طلبوا منْهُ الانصرافَ .
” كان الله في عونك يا والدتي و الله يحفظك …”.
ولَجْتُ الصّالون، استمرّت آسيّة، و كان به مسؤولان ساميّان استقبلاني بحفاوة كبيرة .
ومن أعلى درج الإقامة خاطبني الملك .
“أهلا بآسية عندنا و مرحبا …” و بنفس طريقة وداعه لي على باب السّجن، كان السّلامُ عناقا .
” حدثتني أمس عن جمعيتك التي أسستيها لمُساعدتك على النّهوض بأمور السّجناء، هذا شيك بمبلغ مليون درهم، لن أضع عليه إسم الساحب، لك الاختيار فأنت أكثر معرفة بمن هو أهل لذاك، و الآن أود أن ترافقيني في زيارة ثانيّة للسّجن، أريدُ أن أعرف دقائق الأمور .”
لم أكن أتوقع كلّ هذا، و بالطبع رافقته في سيّارته الخاصّة و على الطريق كان الملك،يحترم أدقّ إشارات المرور، و يستغرب من طريقة سياقة البيضاويين السّريعة و يعلّقُ ،بعفويّة و نكتة، على بعض مواقف السائقين الصّائمين .
كنت كأنّني في حلُم فهذا الشّاب الذي أجلسُ في مقعد سيّارته الأمامي هو ملك البلاد، جاء لمؤازرتي و الشّدّ على يدي … إنّها نعمة من نعم السّماء أرسلتها لي ثريا … و كالصّديق خلْتُه أو كالأخ حين سألني عن صحّة الوالد و ترحّمَ عـلى الأستاذة الـشّاعرة ثريّا السّقاط، و لم يفُتْهُ السؤالُ عـن صلاح و جميعُ الإخوة كذلك .
و عند باب السّجن، كان الملك متفهّما لاحترام القانون، و عدم فتح الباب على مصراعيْه، قبل التأكّد من هوية الزّوار، بل طلب منّي أن أتّرجّل ليفسحوا لنا المجال للدّخول و مُبْتسمًا لم يَفُتْهُ التّعليق عن علاقتي بالسّجون قائلا :” اطلبي منهم فتح الباب يا آسيّة … فالسّجون كُلّها صارتْ مَمْلَكَتك “.
سأل عن دقائق الأمور، زار المطبخ أوّلاً و تفقد مُكوّنات وجبة الفطور و العشاء التي كانت طور التحضير …
زار المصحة، و وقف على الخصاص الواضح في المعدات .
لم يتأفف من تشبت المعتقلين به و عناقهم له، هو يزورهم داخل زنازنهم رغم تحذيرات مرافقيه من الأمراض المعدية التي ربما حملوها .
كانت زيارة حميمية، خاصّةً و مُؤثّرة … و عند المغادرة كان عفويا مرّةً أُخرى
“سأغادر الآن فأنا مرتبط بموعد قبل الإفطار و سأتّصل بهم ليبعثوا لك سائقا لإعادتك إلى محلّ سكناك …”
لا عليك يا سيدي، سأتدبر أمري، شكرا جزيلا و إلى لقاء قريب …
” أنا من يشكرك فوطنيتك من وطنية والديك أطال الله عمر الآسفي و رحم الله ثـريـا … لا تـتـردّدي فـي الاتّـصال بي شـخـصـيـّا فـي أمــر السّـجـون و السّجناء .”
و كان السّلام مرة أخرى أخويا و حميميا .
كنت و أنا أوّدعه أكتشف فيه الملك الإنسان، أوّل ملك يتجرّأ على اقتحام عـالـَم كـان مـن الطابوهات … و اخـتـار أن تـكـون الـزيّارة يـوم 10 دجنبر ” اليوم العالمي لحقوق الإنسان ” في رسالة واضحة أنّ حقّ السّجين في حياة كريمة من حقوق الإنسان كما هي مُتعارفٌ عليها دوليّاً .
“هي علاقة خاصة نشأت إذن و لن يخبو لهيبها أبدا … لم أستطع كتمان عواطفي التي جاشت، حكيت، بكيت، هاتفت كل من حذرني من طريقة السلام و اللباس و تأكد حدسك يا توفيق “.
طبعا كانت زيارة الوالد ضرورية بعد هذا اللقاء، و كان متأثرا و مزهوا بخطوات حفيد محمد الخامس من أجل بناء مغرب كما حلم به جميعُ الرّواد.
” بالفعل هو حفيد صديقنا و رفيقنا في النضال و هو كذلك ابن الحسن الثاني الذي اختلفنا معه حدّ القطيعة، تدخّل الوالد موضّحا، و لكن يجبُ الاعـترافُ لهُ أنّـهُ عـرف كـيف يحضّـر الخلف دون أية ضغـيـنة أو حـقـد، و حتما فقد أوصى وليّ عهده بالتقرب من كل الوطنيين الشرفاء باختلاف انتماءاتهم، و بقدر حبكم للملك الشاب، وجب الانخراط عمليّا في التّغيير الذي نصبو إليه، طبعا نتصالح مع ذواتنا و مع من رحل و نكتب تاريخنا بفخر لأنّنا نعرف كيف نختلف و كيف نتصالح”.
كان هو تحليل الوالد للّقاء، و بالمناسبة طلب منّي إمداده ببعض صوري مع الملك لوضعها على مكتبه، فقد قطع عهدا مع نفسه وضع صور الملك حالما تحقّق حلم المصالحة …
كان الجميع في أوج حبوره فحتى الإخوان في المهجر هاتفوا سائلين عن الأخبار غير مصدقين لما يحدث …
عرف منزلي، استمرّت آسيّة، و منزل العائلة الهرج و المرج الذي لم يعرفه منذ مدّة، فمن مؤيد لهاته الخطوات الإيجابية إلى محذر من مغبة التقرب من المحيط الملكي ثم إلى منتقد معتبرا أنها ذرة رماد في العيون و حسب …
في نفس المساء رن هاتفي، و على الطرف الآخر، كان مدير السجن غير مصدق لما يحدُثُ فقد كانت الأحداثُ قد تجاوزتهُ.لقد وصلت عدّة شاحنات مملوءة بجميع أنواع المصبرات و الأغطية و معدات التنظيف، و كثير من المواد الغذائية . كان الملك قد أرسل الهدية لآسية … و أبنائها
لم يكْف اللّيلُ الرمضاني الطّويل لإحصاء تلك الكمية الهائلة، و كان الحرص على التوزيع العادل بين جميع السّجون .
تواترت مهاتفات الملك و استشاراته حول قضايا المعتقلين و لم تكن تزيدني إلا تحمسا لعملي و تعلقا به، و لم أكن أتوانى عن انتقاد غيابه عنّي، للمقرّبين،و كأنّي به سمع طلبي فلم يعد يخلف مواعيد زياراته الرّمضانيّة بل و تعدّت الشّهر الفضيل حتّى صارت دوريّةً .
بقدر ما كان قربي من مركز القرار محفزا، بقدر ما ازدادت العوائق التي جعلت المأمورية تتعقّد، و لكنّني وطّنْتُ النفس على كل تلك الصعوبات، فهمّي أوّلا أصـبـح مـن هـمّ مـلـك الـبـلاد : تـغـيـيـر و ضـعـيـة الـسـجـنـاء و الموظفين … و أنسنة السجن و ذاك ما ظللتُ أردّد طول مشواري .
و كانت الهدية التي أثلجت صدري و جعلتني أكثر قوة و عزيمة هو الإعلان عن ولادة مؤسسة محمد السادس لرعاية السجناء و إدماجهم .
” إنهم يحاولون الاستيلاء على مشروعك و تبنيه يا آسية …” هكذا كان رد فعل عدد من الأقرباء و الأصدقاء و هم يتلقون خبر إنشاء المؤسسة و توفير فضاءات إنسانية إبان و بعد فترة السجن
“هو ليس استيلاء بل دعم قويٌّ سيمكنني من تحقيق أهدافي بسرعة أكبر، فمن أراد المساعدة فمرحبا و من أراد الانتقاد فأهـلا كـذلك، و لـكـن مـن بعيد …”
أحداث 16 ماي الأليمة،أعقبتها اعتقالات، و مُحاكمات، كانت ستقضي على أحلامنا و أحلام سُجنائنا، فقد تعالت أصواتٌ، مُناوئةٌ للتغيير، تحذرُ من مغبّة حُسْن معاملة ” المُجرمين القَتَلة “، و كانت اليَقظة تُحتّمُ علينا الحرص على ضرورة أن تحترم كرامة السجناء، رغم كل الفظاعات التي اقترفت في حق الأبرياء، و كان امتحاننا الأوّل .
” لن نغير من تعامُلنا مع السجناء و لن نخضع لمبدإ الاستثناءات، فالجميع سواسيّة في السّجن، فقبل و بعد صدور الأحكام وجب التعامل مع الجميع بنفس المبدإ : الحرص على كرامة السجين، و هو مبدأنا في مؤسستنا “. كان هذا موقفي الذي اقـتـسـمـهُ معي جميع أعضاء مؤسسة محمد الـسادس و لاقى، مع ذلك، معارضة قـوية من مناهـضي التّغـيـيـر دائما …
حصلت الأزمة، بين الدولة و معتقلي 16 ماي، و أضربت جميع سجون المملكة عن الطعام، و قرّرتُ محاورة السلفيين المتشددين الذين كانوا يعتبرون أن صوت المرأة عورة، فما بالك بها تُحاورهم من أجل مطالب كانت جلّها عادلة .
لم يسَلّمُوا، و لم أسلّم … و منهم من فضّل الحديث وراء ستار، و لكني كنت أعتبر أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار و أنسنة السجن مبدأ لن أحيد عنه، و ما عدا ذاك فكلّه شكليّات ليس إلا … وَوُفّقت طبعا .
كان الملك دائم السؤال عن أحوال السجناء مستشيرا عن مسائل ربما بدت بسيطة و لكنها عميقة و لم تكن لتزيدني إلا حيوية في عملي اليومي .
ادريس الصديق الوفيّ، الصّموتُ الهادئ كما كان يحلو لي أن أناديه، بنزكري كان مستشاري حين كنت أتيه في خضم التناقضات … آمن بقضيته و قضيتي و تلقينا سهام النقد الحاد لقربنا من الدائرة الضيقة للملك و لأن الوطن فوق الجميع فقد كنّا فوق الجميع .
قلّت اللقاءات الأُسريّة، رغم سهري دائما على هاته الُّلحمة، فمن منتقد إلى منسحب معتبر أن وقتي لم يعد يسمح بلقاءات متقاربة .
عانيت طبعا من الهَجْر، تَجَلّدت و كَابرت و لم أكن لأواخذ أحدا، فقد اخترتُ طريقي و استمرَرْتُ فيه .
احترمت زياراتي لمنزل العائلة، رغم أن مواعيدي كانت كثيرة، فموعد الوالد الأسبوعي كان مقدّسا .
بداية ربيع سنة 2004، أزهرت الورود و اخضَرّت الحقول . كنت في طريق العودة من رحلة عمل، استطرد توفيق، حين تلقيت هاتف أسماء زوجتي :
” الوالد في المصحة، تعب، … لقد ارتأت آسية أن نأخُذهُ هُناك و لو للرّاحة و إجراء بعض الفحوصات الرّوتينيّة للاطمئنان ليس إلا، “… كان آخر أربعاء من شهر أبريل … توجّسْتُ من الأمر و عادت بي الذاكرةُ إلى نهاية الأسبوع الأخيرة، فقد حافظنا أنا و الوالد على تقليد، التزمنا به نحن الإثنين : مرافقتي له للحمّام الشّعبي أسبوعيا، و كان الموعد السادسة مساء من كلّ يوم أحد .
صار الموعدُ مقدّسا . إلا أن الوالد، و على غير عادته، فضّل تعويض حمّامه ذلك الأحد الأخير من شهر أبريل بزيارة خاطفة لبعض شوارع البيضاء .
” لن نذهب هذا الأسبوع إلى الحمام، أرغب في رحلة خاصة في شوارع البيضاء، نتقاسم خلالها جماليّة مدينتنا . و بعضا من تاريخنا ” كان طلبُهُ غريبا فلم تكن من عاداته حبُّ زيارة أحياء و أزقّة المدينة .
عند تقاطع شارعي عبد المومن و غاندي كان أول طلب للتوقف، نظر طويلا ناحية مدرسة المنفلوطي المختلطة و حدّثني عن تفاصيل أعرفها جيّدا … هنا كانت تعمل ثريا، و في هاته الزاوية استقبلتني عند إطلاق سراحي سنة 1974، و عند تقاطع شارعي الحسن الثاني وللا الياقوت أردف : هنا كانت بناية المسرح البلدي الذي هدّموهُ … و في هاته الحديقة أقيمت لوحة تخلّد لشهداء 16 ماي … هلاّ ترحمنا على أرواحهم قبل استئناف الرحلة … ؟
قرأ الفاتحة، و ظل صموتا للحظات قبل أن نستمر في رحلتنا … عند ساحة الأمم المتّحدة تذكّر ” في هذا الفندق كنت أبيت و أنا في طريقي من آسفي إلى فاس، و أمام هذا المقهى كانت المحطة الطرقية، ثمن الرحلة لم يكن يتعدى بعض الريالات .”
“و هذا شارع أحمد الحنصالي … أليس كذلك ؟”
بلى، يا والدي، و لكن لقد غُيّر اسم الشارع تكريما لرئيس ساحل العاج هوفويت بوانيي.”
” خسارة أن يُستبدل الإسم، فأحمد قاوم لوحده جيوشا و ساهم بعفوية في زعزعة استقرار المستعمر بالأطلس … كأني بالسّاهرين على التّسيير المحلّي، يحاولون محو ذاكرة الوطن …
و عند المعلمة التاريخية ” مسجد الحسن الثاني “… ترجل و صلّى ركعتين عند باحة المسجد …
“لم تُدبّر الأمور كما يجب عند بناء هاته المعلمة، لقد فُرضَت اكتتابات بالقوة، و اعتقل الكثير، ممّا جعل جُلّ أفراد الشّعب يستنكرون و يشمئزّون من هذا المشروع الذي دام لسنوات عديدة، و لكنها منشأة جميلة و رائعة ”
عند نهاية الكورنيش، طلب الوقوف مرّةً أخرى عند فندق، بعينه دلف إلى الداخل حيث القاعة الفسيحة ذات الأثاث القديم … أخذ مكانا على الشرفة المقابلة للأطلسي و راح في تأمل غريب …
تقدم منّا نادل شاب طالبا تغيير المكان، فالزاوية بالذات لم تعد مؤهلة لاستقبال الـزبـنـاء وقـد فضل صاحب المكان جعلها ثراثا يخلد لتاريخ الفندق …
لم يتحرك من مكانه، بل سأل الشاب …
” هـل لديك معلومات عـن مصطفى عازف البيان الذي كان يعمل نادلا كـذلك … أظنه سيكونُ تقاعد عن العمل .”
بالفعل، يا سيّدي، لكن صاحب المحل طلب منه الاستمرار في المجيء وقت ما استطاع فهو ذاكرة المحل … و بالصدفة لقد حل منذ قليل …
بعد لحظات ظهر مصطفى و كان شيخا عجوزا بالكاد يستطيع المشي و لكنه احتفظ بأناقة خاصة تحيل على ذوق الرجل …
لم يتأخرا في عناق بعضهما البعض عناقا حارّاً بكثير من التأثر الذي ظهر جليّا على محياهما، قالا في نفس الوقت : ” رحم الله الشهيد عمر “، هو من عرفني بك و بالمحل … همس الوالد لمصطفى .
” عليه الرحمة، أتذكر تلك المساءات التي كنتم تزوروننا، بعد اجتماعاتكم الصاخبة، و تطلبون منّي عزف مقطوعاتكم المفضلة “.
و البيان … هل حافظتم على قاعدة العزف عليه كل المساءات ؟
لم يعد الزبائن يطلبونه، لقد تغيّرت الأذواق، و لكن من أجلك، ومن أجل عُمر، سأنفُضُ عنْهُ غبار السّنين، و أعزف ذات المقطوعة .
أزاح مصطفى ستارا أسود كان يغطي بيانا من النوع الرفيع أضحى تراثا، … و عزف مقطوعات لبتهوفن، و ألحانا لأم كلثوم
كانت اللحظة جميلة …
” هناك كنت أتسامر و الشّهيد عمر، في بعض المساءات … نتحدّثُ عن، إحباطاتنا و نجاحاتنا، و عن أسرتينا كذلك …”، و بعـد صمت طويل و انتهاء مصطفى من العزف … توادعا .
” هيَّا بنا لنعود إلى البيت لقد كانت رحلة ممتعة، و موعدنا في الأسبوع المقبل لتأخذني إلى حمامنا الشعبي، و إياك أن تفكر مرة أخرى في اقتراح أخذي لواحد من تلك الحمامات التي أضحت تشبه القصور، أنا غي ولد الشّعب .”
تعب القلب، و ظلت الروح صامدة و شابة .
تضاربت آراء الأطباء … و كان القلب متعبا جدّاً … و كان مرّةً أخرى يوم أربعاء …
عند وصولي إلى المستشفى، كانت وفاء تسهر على مساعدته لأخذ وجبة العشاء، نظر إليّ قائلا :
” واش جبتي معاك الجرائد ديال غدّا …”
كُنْتُ أخذتها و أنا على الطّريق، فهي عادةٌ قديمة، … كان مبتسما و طلب قراءة جميع عناوين الصّحف و على رأسها جريدتيْ الإتّحاد الإشتراكي … و الأحداث المغربيّة …
” قرا ليّا الافتتاحية راه بعْدْ غدّا فاتح ماي … و ما تنساوش تعَيْطو ليّا على السّي عبد الرّحمن بغيت نشوفو فالصّباح .”
لم أكمل قراءتي حتّى كان قد غفا …
منتصف اللّيل أُدخل إلى غُرفة العناية المُركّزة …
عبد الرحمن، اتخذ مكانه في قاعة الانتظار منذ فجر اليوم الموالي، كما طلب الآسفي، و طوال اليومين المتبقيين التي قضاها الوالد في غرفة الإنعاش …
” ما رأيك يا توفيق في حالة الوالد ؟ ” سأل صلاح و هو في أقاصي الجنوب المغربي، هل أعود أم أستمرّ في عملي إلى نهاية الأسبوع ؟
نفس السؤال وضعه جميع الإخوة المقيمون بالخارج …
كان أبو وليد متردّدًا في العودة، فأمامه مسؤوليات وطنية جسيمة لزمه احترام مواعيدها .
كنت حاسما و حازما … ” عودوا فالحالة حرجة “.
” آسية ماذا تقترحين … ما عليك إلا أن تطلبي و سأتكلف بجميع الإجراءات ” كان ملك البلاد على الهاتف يتتبّع دقائق الأمور، سائلا عن آخر أخبار حالة الوالد الصحية .
” شكرا جزيلا و لكن حالته لم تعد تستحمل التنقل “.
رحل، الوالد، بعد أن أدى التحية السنوية للعمال يوم فاتح ماي … انتظر حتى وصل جميع الأبناء، و تحلق حوله الأصدقاء والأحفاد … و كانت المرّة الأولى التي يلتئم خلالها جميع الأبناء و البنات منذ عقود …
في غفلة من الجميع غادر الآسفي، مَجمَع الحاكين، و كان أسامة أوّل من انتبه إلى رحيله عن أزّقّة اشبيلية، و حين نبّه الحاضرين، كان الشّيخ قد بلغ نهاية الزّقاق المظلم و لم تعد تظهر إلا يداه تلوّحان في السّماء لمن بقي من الأبناء و الحفدة مودّعا الوداع الأخير .
و من باب مسجد الحسن الثاني كان الهاتف الملكي، تتذكّرُ آسيّة
” عزائي لك و لكل العائلة و لي كذلك في هذا الفقد، فكَّرْتُ فيك و فيه، دعوت له كثيرا و أنا أحيي ليلة المولد النبوي، رحمه الله فقد فقد فيه المغرب وطنيا صادقا، لا يهاب في الله لومة لائم، دعواتي لكم بالصبر و حمدا لله أنه اصطفاه في ليلة كهاته ” كان الملك متأثرا و هو يهاتف آسية معزيا جميع أفراد العائلة .
” لقد فقدت جزء منّي هذا المساء … جزءً من تاريخي و تاريخ أسرتي الصغيرة، كان من أول زائري و أنا أستقيل من الحياة السياسية، احترم قراري و ظل الصديق و المستشار الفريد …” كانت أولى كلمات اليوسفي بباب المصحّة، و من هناك إلى المنزل العائلي رأسا .
” أتذكّرُ جنازته و كنتُ قرابة السادسة من عمري، تدخل أسامة، أمواجٌ بشريّة هالتني، و لم أكن ولا رفيقي وليد نفهم ممّا يجري حولنا إلا أنّ جدّنا قد رحل لملاقاة مّي ثريّا .”
حضر الوطن كلّه لتشييع الوالد إلى مثواه الاخير، و كانت التعزية الملكية في حدّ ذاتها اعتراف بوطنية الرّجل … و إنصاف و مصالحة .
” علينا المُعَوّل الآن … انتهى كل شيء، صرنا يتامى إخوتي، و علينا حمل المشعل بما يليق و من ائتمنونا على هذا الإرث المعنوي، شخصيّا سأستمر في عملي الجمعوي و لن أخفيكم أنني صرتُ أكثر حماسا للعمل من أجل سجناء وطني، فهناك إخوة و أبناء و كما كان يقول والدي فالأخوّة ليست أخوّة الرحم فحسب بل أخوّة الأهداف و المرامي .
منزل العائلة مُقدّسٌ، هو الإرث المادّي الوحيد للوالدين، ملْكٌلنا بالتّساوي لا فضلَ لأحد فيه على الآخر، للأنثى مثلُ حظّ الذكر و حتّى لو قُدّر و رحلنا قبل بعضنا البعض، فالإرثُ بالتّساوي، و استغلالُه بالتّساوي كذلك، أظُنُّ أنّ الجميعَ مُتّفقٌ على الاقتراح فهوُ أرقى هديّة يُمكن أن تصل إلى أرواح الوالدة و الوالد .”
كان أول مؤتمر عائلي يُعْقد بحضور جميع الإخوة و الأخوات، في غياب الأُمّ و الأب، كانت آسية قد أخذت الكلمة و حسمت في جميع المواضيعً .
طبعا كان الجميع متفقا، دون استثناء .
“للا خدوج بمثابة ثريَّا، لها احترام الجميع و ستظل سيدة المنزل إلى أن تختار بمحض إرادتها الرحيل نحو وجهة أخرى ،ولنُعوّضها بالتّساوي كذلك .” و كان الاتّفاق الثاني الذي لم يكن ليجرُؤ أحدٌ على مُعارضته … هي أخلاقُ ثريّا و محمّد أورثاها للجميع .
عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي، آسيّة مُناضلةٌ في سُجونها من أجل استكمال مشوارها، و صلاح واصل المُهمّة الوطنية التي أخذ على عاتقه الاستمرار فيها إلى النهاية، انصافٌ و مُصالحةٌ و كتابةٌ لصفحات الماضي الأليم و أساسا قراءتها قبل طيّها .
و كان الملك مُتتبّعا، مُهاتفا و مُساندا …
أضحت اللقاءات العائلية الأسبوعية تلتئم بمنزل آسية، تدخّل توفيق، بوثيرة أكـبـر بعـد رحيل الوالـد و كان الجميع يفضل المكان، فلصاحبته رمزيتها، و كم كانت تلك اللقاءات العائلية صاخبة … فلأبناء الوديع انتماءات مختلفة، وربّما مُتعارضة و لكنها لم تكن لتحيد عن أفكار الحداثة و الوطنية و المساواة،… الأحفاد حملوا المشعل … و كانت النقاشات العائلية عموما تـدور حـول السياسة العامة في البلاد … و انـتـقـادات الشّباب كـانت جـادّة و جريئة، و كان صلاح عميد العائلة هو أول من يستقبلها، بصدره الرّحب، منفتحا، شارحا، مُقنعا أو مُقتنعا و مُتغاضياً فهو يتذكّر شبابه و تمرّده و لكن الزّمان و النّظام اختلفا، و كان ذلك جوهريّا .
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…