فسحة الصيف 28
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
بقلم : توفيق الوديع
رغم كل هاته الأحداث المتواترة، حضّرنا احتفالا متميزا في ذكرى ميلادك الرابع و الأربعين يا آسية … أليس كذلك ؟
بالفعل يا توفيق، كنتُ مُتوتّرةً تلك الّليلة و لم أشأ أن أخبركم بالمستجدّ، فقد كان الطّبيب قد نصحني بأخذ عيّنة من ثديي لإجراء تحاليل مَخبريّة بعد أن كان قد كشف عن ورم اعتبره عاديًّا، و لم يكن الإجراء الذي اتّخذ إلا للتّأكّد من أنّ الورم ليس خبيثا …
كان الخبر الذي صدم الجميع …
” لا تزعجوا أنفسكم بمُرافقتي، فالعملية بسيطة و لن تدوم أكثر من ربع السّاعة “.
كنت تضحكين، غير مباليّة للاحتمالات الممكنة، و أنت تنتبهين للوجوم الذي عمّ وجوه الحاضرين …
عند الصّباح حضَرَ الجميع حتّى مُحَمّداً، أبُ الأبناء، الصديق الذي صار أخا كان أول من حضر … فالعلاقة التي جمعتكما كانت عميقة …، استمرّ توفيق،
طال وقت العملية ودام أكثر من ثلاث ساعات، كان خلالها الحاضرون متوجّسين من النتائج التي بدأت احتمالاتُها السيئة تظهر .
يوسف الذي شارف على عقده الثاني، يتلقى الطّعْنة الثّانية … بعد رحيل الجدة الأم التي قاسمها لحظات رائعة، احتمى بشرفة المصَحَّة ففيه مدىً يستطيع من خلاله بث أحزانه … لم يمنعني من اقتحامي لخُلْوته، بل عانقني بقُوّة … جعل رأسه على صدري و بكى بحرقة …
” لـقـد كان الـورم أكبر ممّا اعـتقدنا … و كان لازما أخذ جميع الاحتمالات و لهذا تمّ استئصال الثدي بأكمله و جزء ليس يسيرا من الإبط .” كان الطبيب يُخْبر صديقته المريضة بتفاصيل العمليّة، فقد كانت ترتاح له، هو الذي رافقها منذ سهره على مراحل حملها الأول و ما صاحبه من تعقيدات، خصوصا و أنّه تزامن و موجة الاعتقالات التي عرفتها سنوات السّبعينات. مرحلة أخرى من المعاناة تُستَهلُّ بعد شهور معدودة من رحيل الخالة التي عانت من نفس السّرطان، و قاومت لعقد و نصف قبل أن يستسلم جسدها بعد صراع كبير مع المرض .
كنت متيقّنة، تدخّلت آسيّة، أنّ أمامي عقدين من الزمن على الأكثر، قبل احتمال الرحيل و عليّ استثمار ما تبقى من عمري من أجل المبادئ التي كانت من أحلام ثريا و لأنفّذَ وصاياها …
أذكُرُ، استمرّ توفيق، و أنت تستفيقين من آثار البنج، و تنتبهين إلى حالة الذهول التي عمّت جميع الزّوّار، كيف صحت فينا قائلةً
” إلى بقات فيكم البزولة راه الطبيب غا يركب وحدا جديدة .”
لم تتأخر بديعة، صديقة ثريّا و رفيقة الدّرب في الزيارة و اقتسام التّجربة، كانت مستشارة و مستشيرة ثريا فقد بَنَتا معا و أسستا للكتابة الوطنية للنساء الإتحاديات … جـوادها ذاق نفس مرارة الاعـتـقـال، كذلك، بسجن القنيطرة و رافقته في صمت المناضلين …
حلّت بديعة، إذن، و في استغراب الجميع، طلبت من الذكور الانسحاب من الغرفة، و أمام ذهول من تبقّى من الإناث و بقوة شخصيّة نادرة نزعت جميع ملابسها الفوقية بما فيها الداخلية …
كانت قد استأصلت ثديها قبل عقد من الزمن، و تتبعت جميع فصول العلاج الكيميائي … في صمت الحكماء و استمرت في تحمّل مسؤولياتها الحزبية و الجماعيّة بقوة و تميُّز … حافظت ثريا على سرّ صديقتها وعَرفت كيف ترافقها في المزاوجة بين المرض و العمل الحزبي … والجماعي واستمرّت وحيدةً، بعد رحيل ثُريّا، و استطاعت أن تربح الرّهان و تتبوأ كرسيّ البرلمان، عن جدارة و استحقاق، كأولى نساء المغرب اللائي اقتحمن ذاك الفضاء .
تعانقنا بعفوية، تحكي آسيّة، فبديعة هي الثريا التي استمرت في إنارة طريقي في جميع مراحل علاجي … و كان حضورها الشرارة التي جعلت من مرضي محفزا للاستمرار في نضالات أخرى …
كـانت رحلة العلاج طويلة و مُـكـَلـّفـة، و لأنني لـم أنتبه لتغطيتي الصحية، و لأن العلاقة الإنسانية استمرت، فقد رافقني، السّي محمد الشهبي، في رحلة علاجي ماديا و معنويا …
تفوقت آسية على المرض و كانت عزيمتها دواؤها … صارت صلعاء و لم ترتد الباروكة إلا حماية لرأسها من نزلات برد مُحتملة، خصوصا والجسد لم يعد يقوى على التّحمُّل، بفعل العلاج الكيميائي .
و هل استمرّ عملك عاديا يا عمّتي؟ سألت سامية و هي تضع رأسها على كتف من عشقت من العمّات .
طبعا يا بنيّتي كان الاستمرار ضروريّا في عملي بسلك المحاماة و الذي جعلت منه منبرا للدفاع عن كل المقهورين … و انخرطتُ في عدد من الجمعيّات المدنيّة التي تُعنى بالمرأة و حقوقها .
و عند نهاية الحرب الأهلية بأفريقيا الوسطى، رواندا تحديدا، تطوّعتُ للمساهمة في الدّفاع عن مضطهدي الإثنيات هناك … بعد الحرب الشرسة التّي عرفتها المنطقة بين التوتسي و الهوتو …
لم تكن المخاضات السياسية بمنأى عن اهتماماتك بالوالد و تنفيذ وصيّة ثريّا، أضاف توفيق، فقد صِرتِ رفيقته و مستشارته … و كاتمة أسرار افتقدها …
أتذكّر أن ببيتك جمعتيني،استطرد الآسفي، بعبد الرحمن اليوسفي و عائلة الفقيه البصري تحضيرا لعودة الأخير في احتفال تاريخي … لم يُنْظَر له بعين الرّضى من القريب قبل البعيد …
و في بيتك، استمرّ توفيق، جَمَعْت كل فصائل اليسار الحديثة العهد بالحرية بعد عقدين تقريبا من الاعتقال، مع مسؤولين داخل حزب الاتّحاد الإشتراكي لتقريب و جهات النظر … أملا في يسار موّحّد، و المغرب يتغيّر …
و به جمعت الفنانين و الأدباء، كذلك، … محمد الرڭاب ذلك العبدي الذي ارتبط بالعائلة و كان الوالد ينعته بالعصبيّ القبليّ لدواوير عبدة، محمد القاسمي الفنان التّشكيلي، أحمد فؤاد نجم الذي وجد في بيتك الملجأ الآمن … أولاد أحمد الشاعر التونسي الذي ارتاح في ذاك الفضاء و قد حاصرته كتب الشعراء العرب من كل جانب، محمود درويش و في أول لقاء لكما، أسرّ لمرافقيه بأن عينيك تشيان بشحنة شاعرية مرهفة، … و نادرة، فما كان من واصف منصور إلا أن نبهه بأنه في حضرة مثقفة عربية حافظة لكل أصناف الشعر العربي، و لذا وجب الاحتياط منها، و عدم المجازفة بسؤالها عن بحور الشعر أو ما جاور ذلك … و لم تتركي الفرصة تمُرّ دون إنشادك لرائعة ” مديح الظلّ العالي ” بطريقة اندهش لها ناظمها … شاكرا واصف منصور، مع مُؤَاخذته، على التأخير في تعريفه بهذا النّوع من الشاعرات و الأديبات .
************************
كم هو جميل هذا التّاريخ يا والدي … عقّب أسامة الذي كان ُينصت بشغف لتلك الأحداث الّتي عرفتها العائلة …
هو تاريخكم، أبنائي، الآسفي و أنتم من ستكملون المشوار الذي بدأه معي والدكم و عـمتكم … لم يستطع إتمام جـمـلـتـه فـقـد طلب العربي نقطة نظام و تدخّل محتجا على التلميح إلى أفضلية أحد من الإخوة على الآخرين فما كان منه إلا أن عانقه بحنو قائلا :
اعلم يا بني أنني مفتخر بكم جميعا، و محبتي لكم على قدم المساواة ليس لأنكم أبنائي فحسب و لكن لأنكم عرفتم كيف تخلدون الإسم الذي حملتم كلٌّ في ميدانه و اخترتم، دون اسثناء مرافقات و مرافقينَ، عرفُوا كيف يساعدونكم على ذلك، و أنا على يقين بأنكم محافظون على الإرث المعنوي الثقيل الذي تركناه لكم والدتكم و أنا، فنحن ممتنون لكم .
كانت آسيّة قد احتضنت سامية و أمّها و لم تخل اللّحظة من دموع، تخلّلتها ابتسامات معبرة، أمّا العربي فقد كان يُمرّر يديه على شعر رأسه الكثيف محاولا مداراة بعض الدموع التي خانته و تسربلت على خدّيه .
” إذن فأنتم عائلة ” بوحاطية ” بامتياز و لن أواخذ والدي بعد اليوم و أنعته بالنّعت الذي أورَثْتَه لَهُ عُنْوةً يا عَمّي ” جاء تدخّلُ أسامة الذكي ليحيل جوّ الحزن مرحا، فقد قوبل بقهقهات الجميع مثمنة الخلاصة التي وصلها …
“هل أصابك البخل يا صاحبي … راه جاني الجوع وهاذ المرّا بغينا شويّا دْ اللحم باراكا علينا من البقايا بغينا الصّح …”
“شكرا بّا الآسفي راحنا توحّشنا الّلحم وْ هاذ الواليدا عندنا الله يهديها علينا…ماكاين غي الخضرا …” صاحت سامية مثمّنة اقتراح جدّها …
خـسـااارة أ أسامة عـنـد هـاذ الصبليون ما كاينش الـشّـوّايـة … تدخّلت آسيّة و الحسرة بادية على محيّاها …
لا تنزعجي، يا عمّتي، فخلال زيارتنا لأحياء المدينة نهار أمس أثار انتباهي مطعم يظهر أنّه يقدّم أطباق لذيذة من اللحم المشوي …
شوفو واش كيطيبو على الفاخر وْ لا بْنَاقَسْ….
على الفاخر أ بّا الآسفي … غير تبعوني …
في حماسة قلّ نظيرها … قاد أسامة القافلة نحو وجهة لا يعلمها إلا هو … تتبعه سامية ناطّةً في جميع الاتّجاهات …
على باب المطعم تقدّم العربي الذي اعتبر نفسه المؤهّل لسؤال الآنسة المُسْتقبلة عن صحّة المعلومة التي تفوّه بها ابن أخيه و التي جعلت منه قائدا للمرحلة، و بإسبانية لا تخلو من ركاكة كان يبحث عن كلماته محاولا تغليف طلبات العائلة في غلاف لا يظهر منه أنها أمام عائلة من آكلي اللحوم فحسب فقد كان متوجّسا من ردود أفعال الأوروبيين على مثل هاته الطّلبات …
كانت تستمع إليه و تنظر دون أن تفارق الابتسامة مُحَيّاها و أجابته بدارجة مغربيّة بسيطة …
“مرحبا بخّوتي المغاربة … أنا من الفقيه بن صالح … و فتحت هذا المطعم قبل عشر سنوات … و عليه إقبال كبير .”
و ماهي أهمّ الأطباق التي تقترحون ؟ سألها العربي و هو يُنَبّهُ الأطفال إلى الأطباق التي هُيئَتْ لأصحابها و المُكَوّنةً أساسا من سلطات و خضر .
” خُضرا، سلطات، عجائن … و …” لم تكن لتتم جملتها حتّى توجّه نحو أسامة قائلا :
” راه ڭـولـت لـيـك هـذيك الشّوها دْ يالك خلّيها حتّى لحد السوالم و سير شوي …”
“… و لنا كذلك شرائح لحم مشوي على الفحم … و كاندير الرّاس و الكرعين.حتّا هوما …” لم تكن الآنسة قد أكملت سردها حتّى صرخ الجميع صرخة الانتصار … و الجدّ قد أخذ طاولة في أقصى قاعة المطعم و راح في ضحك منتش بتلك العلاقة التي جمعت الأحفاد بالأعمام و العمّات …
لم يكن من العربي إلا أن تدخّلَ حامدا الرّبّ على تواجده بعيدا عن مقرّ سكناه هناك في المدينة العلميّة غرونوبل الفرنسيّة، و إلاّ فقد كانت ستحلّ الفاجعة لا محالة خصوصا و أنّ جزّار حيّه لازال يذكّره بابن أخيه الرّضيع الذي كان قد زاره قبل ستّة عشر سنة و الّذي ظلّ يردّد و يُشير … ” اللحم … اللحم … اللحم …” و هو يرى كميّةً من كل أنواع اللحوم كانت موضوعة بعناية في الثلاجة الزجاجيّة لجزّار حيّه التّونسي و التي كان مستواها في مستوى ذاك الرّضيع الذي لم يكن إلا أسامة …
وْ مالك السّي العربي فين الدّاتك الوقت ؟ سألت آسية و هي تنتبه لشروده.
لا عليك، تذكّرت حدثا وقع قبل سنين مع هذا الشاب … شوّهني في فرنسا و ها هو يعيد الكرّة في اسبانيا باقي غي يمشي بيّا للاتّحاد الأوروبّي …
كانت الوجبة غنيّة، و بروح دعابته المعتادة سأل العربي سامية وهو ينتبه إلى استمتاعها الواضح و هي تتذوّق شريحة لحم كم كانت كبيرة
إوا أ سامية هل بحثت لنا عن تاريخ أسوار إشبيلية كما وعدتينا و نحن على مقهى برج الذهب …
أسوار إشبيلية … ؟ … نعم بحثت …
داخل أسوار إشبيلية توجد أزقّة ضيّقة بها مطاعم تحضّر اللّحم المشويّ على الفحم … و على الطّريقة المغربية … و في إحداها نأكل الآن …
إوا أعمتي عجبتك أو لا لاّ …
تبارك الله عليك …
العربي انضمّ أخيرا للجمع و طلب طبقا من اللحم كذلك، لكنّه فضّل أكله على مهل … و حين كان أسامة قد أنهى طبقه كان العمّ يمعن في تعذيب نفسي لابن أخيه، متلذّذاً في أكل قطعته على مهل تماما كما فعل في صباه مع إخوته … فقد فطن لرغبة أسامة الجامحة في اقتسام طبق عمّه … و لم يكن العمُّ ليُذعن لذلك الطّلب بالسهولة المرجُوّة …
كان الحاضرون يضحكون مستمتعين و هم يتتبّعون جميع تلك الأطوار خصوصا و قد أضحت طريقة أكل العربي ” لحقّه ” في اللحم حديث جميع الإخوة منذ الصّغر … فقد كان ضيق ذات يد الأسرة و كثرة الأبناء قد فرضا على ثريّا تقسيم ما وُجد من اللحم،على قلته، بالقسطاس بين الجميع ممّا جعل كلاّ منهم يبدع في طريقة و توقيت أكل ” حقّه “. و في ذاك تميّز العربي …
بعد الوليمة الّلحمية، كان لزاما الهضم مشيا على طول الأزقة المحادية لأسوار المدينة القديمة لإشبيلية …
إذن يا سامية ماذا حضّرت لـنا عـن إشـبـيـلـيـة و أسوارها … غير المطاعم و أكل الّلحم … سأل العربي و هو يعلم جيّدا أنّ الصبيّة كانت قد أُخذَتْ بالحكي خصوصا و المرحلة السابقة تخلّلتها لحظات عاشتها بقوّة .
” طلق شويّا من البنت السّي العربي و خلّي توفيق يفْكّرنا و يكمّل لينا …”
” ديما فيك الفرزيّات أ الواليد …”
عبد الرحيم بوعبيد رفقة الوديع الآسفي ومجموعة من المناضلين في المؤتمر الخامس للحزب سنة 1989
ضحك الآسفي و عانق الإبن الفيلسوف … فيما كان توفيق غير مبال بما يقع يطلب من رفيقة دربه التريّث، هي المستعجلة لمعرفة المزيد بالدّقّة في الوصف …
كانت آسية تبتسم،فقد لاحظت كيف تعلّقت أسماء بقصّة العائلة، و هي التي توجّست من قدرتها على مجاراة بعض مواقف أفرادها و خصوصا مَنْ سيصير زوجها، مواقف كانت ستنهي علاقتهما قبل البدء حتّى … تتذكّر آسية وهي تحكي كيف أنّه في مساء أحد أيّام الآحاد الرّبيعية، دخل توفيق إلى المنزل و علامات القلق بادية عليه و كانت تعلم جيّدا أنه كان على موعد مع الشّابّة التي تعلّق بها من أوّل نظرة و قدّمها للإخوة على أنّها زوجة المستقبل .
حين انتَبهتُ سألتُه مستغربة :
“ما بك ؟ ياك لاباس …”
أجابني باشمئزاز …
” تفارقت أنا و أسماء … سالينا …”
” وْ علاش ساليتو وْ انتوما باقي ڭاع ما بديتو ؟”
” ڭالت ليك الحسن الثاني دبلوماسي، غزال… وْ واعر … كا تبغيه … وْ كا تحماق عليه …”
ضحكتُ حتّى لم أعد أحتمل … و رفعت السّمّاعة لأدير رقم هاتف منزل عائلتها … حاول منعي فلم يكن منّي إلا أن أجبته …
” سير ألحمق … راك قفّرتيها … حيث حتّى أنا عزيزة عليّا شخصيّة الملك رغم أننا يمكن أن نختلف ”
كنت لا أزال تحت وقع الصّدمة و أنا ألج باب بيتنا، استطردت أسماء، فالعلاقة التي كانت في طور البناء، و التي تعلّقتُ بها، صارت على وشك الانهيار لأنني عـبـّرت عـن مُجرّد رأي في شخصية لم تكن إلا لملك البلاد و لم أكن أتصوّر أن يكون ردّ فعل توفيق، بتلك الطّريقة … التّضحيّة بعلاقة، كانت جميلة، لمجرّد تعلّقي بشخصيّة الملك .
والدتي و هي تستقبلني على باب الـمنـزل فهمت أنّني لم أكُـن على ما يـرام و قد كنت قد بُحتُ لها بسرّ تعلّقي بالرّجل الذي عَرَفَتْ عائلته كلّ سجون المملكة … و رغم توجّسها من علاقة بنتها الوحيدة بهاته العائلة الغامضة … نبّهتني إلى أنّني قـبـلـتُ بالـشّـخـص الّـذي لـم يُخْف عـنّي تاريخ أسـرته و مواقـفها، و أنّـه لـم يعد من حـقـي أن أُفاجَأ منه بمثل هـاته الـمـواقـف … و ختمت عليك أن تتفهّمي ردّة فعله، فقد فتح عينيه على فضاعات اعتقال والده و إخوته … و الله يكون فالعوان …
لم تكن قد أتمّت تدخّلها حتّى رنّ جرس الهاتف و حين أجابت التفتت نحوي و في عينيها تساؤل غريب قائلةً …” هي سيّدة تطلبُك …”
كُنت يا آسيّة على الطرف الآخر من الخطّ … كانت ضحكتك مجلجلة، و حتّى قبل أن أتكلّم … بادرت قائلةَ …
” حتّى أنا عزيز عليّا الحسن الثّاني أجي نتصاحب أنا وايّاك وخلّي هاد العيّان يضرب راسو معا الحيط … و غذّا نتلاقاو فلوازيس راه عندنا واحد المناسبة …”
ابْتَسَمْتُ … و ابْتَسَمَتْ الحاجّة مفتاحة …
فهمتُ … و أكبرتُ الموقف و لكنّي كنت متردّدة … و مع ذلك ذهبتُ لمنزل العائلة و كأني إحدى صديقاتك … كان أوّل لقاء ببّا الآسفي … لقاءً عاطفياً خالداً …
فلنستمرّ في حكينا، تدخّل توفيق، و قد علت وجنتاه علامات خجل واضح،
لقد فهمت منذ أوّل حلولها بالوزيس أنّكما ستكوّنان زوجا مثاليّا و أنني كسبت بنتا رابعة، لي مع أصولها ذكريات خاصّة، تدخّل الآسفي، رافعا الحرج عن ابنه …
ثريا السقاط رفقة ابنها عزيز بعد قضائه 10 سنوات من السجن بعد أن اعتقل وعمره لا يتجاوز 17 سنة
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…