فسحة الصيف 27
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
رحـيـل الـقـائـد … و” وَحـشْ ثـريـا الـدّايـم
.. رحل عبد الرحيم الذي كان محور عالم الآسفي، و سافرت ثريا لعلاج أصبح مستحيلا … تاه الرّجل و هو يبحث عمّن يبثه شـجـونـه و أحزانه … و ازدادت وحدانيته … أصيب بشلل نصفي لم ينتبه له
اشتد المرض على الوالدة، يحكي توفيق، و صارت حالات النزيف الدّموي التي تنتابها متقاربة و هي علامات تمكُّن المرض من جسدها و انعدام حظوظ الشفاء … فترات نشاطها كانت تمضيها في المطالعة و الكتابة، على سريرها الذي لم تعُد تبرحه، إلا للضّرورة القُصوى، و لم يكن مؤنسها إلا أصغر حفدتها إذاك المهدي الذي كان يداعبها … و تداعبه و هو يصر على مرافقتها في طعامها اليومي، و كان غنيّاً بشرائح الّلحم الأحمرالمشويّ فالأطباء نصحوها بحمية كهاته لتعويضها عن فقدان كميّات الدم .
” لم تشتغل بالجزارة، يا الآسفي، و لم نسكن يوما منطقة عبدة، و مع ذلك جميع من تنسّل منك له ارتباط عاطفيّ باللحم الأحمر بجميع أنواعه و أظنّ أنّه وجب اهتمام هاته الذرّية بدراسة أكاديميّة و علميّة لهذا الموروث العجيب … حُّبُّ الّلحم المشويّ … كأني بهم حيوانات لاحمة … فآسيّة لا تكون في أوج نشاطها إلا و هي تشتري كمّيات من اللحم، تـوقـد الـمـواقـد، و تسهر شخصيّا على الشواء …”
” و ما شتّي والوا أمّي للاّ واحد سامي راه كايطلب الشّوَا قبل ما يوصل من فرانسا وْ أُسامة كيّاكل الكَفتة خضرا وْ وليد خلاص … وْ زيد وْ زيد راه ما كاين غير اللحم …” تدخّلت ساميّة معقّبة على ملاحظة جدّتها .
حرص الآسفي، استطردت ثريّا، على زيارات متتالية لعبد الرّحيم الذي تقدّم مرضّه وعند عودته من إحداها سألته .
عبد الرحيم بوعبيد يترأس تجمعا انتخابيا بمدينة أسفي لدعم ترشيح محمد الوديع الآسفي في الانتخابات البرلمانية لسنة 1976
مشيتي عند عبد الرحيم ، كيف حالتو ؟
هو متعب يا ثريا و يسأل عنك كثيرا .
ما كرهتش تدّيوني نشوفو … الّدنيا و الزمان هذا …
ننويو الخير أ ثريا راك غاتصحّي و ملّي ترجعي من فرانسا نمشيو عندو كاملين …
تمكنت الوالدة من الحصول على شهادة التحمل، استمرّ توفيق، و رحلت للعلاج إلى فرنسا يوم 3 يناير 1992 رافقتها آسية طبعا فقد صارت ممرضتها، خصوصا و قد تدربت على ذلك جيّداً … و حتّى باريس لم تَعُدْ ذاك الغُولُ الذي يُهاب . كانت الرحلة الأخيرة، شاقّة ففترات فقدان الوالدة لوعيها صارت متواترة … الكبد الـذي احترق نهاية السبعينات فـعـل فعلته و طلب الاستقالة …
رحل عبد الرحيم، يوم 8 يناير 1992 بعد صراع طويل مع المرض، مخلفا الوالد يتيما، و وصيّةً لكلّ الاتحاديين، عَلم، الآسفي، بالخبر صُدفةً فلم تكنْ لأحد، من الأبناء أو المُناضلين، شجاعة إخباره بذاك الرحيل التاريخي …
رحل عبد الرحيم الذي كان محور عالم الآسفي، و سافرت ثريا لعلاج أصبح مستحيلا … تاه الـرّجل و هـو يبحث عـمّن يبثه شجونه و أحـزانه … و ازدادت وحدانيته … أصيب بشلل نصفي لم ينتبه له …
في عاصمة الأنوار كان الجميع متضامنا و مريضة الوطن فالرّفاق الذين بصموا التّاريخ النّضالي للمغرب، و لم تكُن باستطاعتهم العَودةَ بَعْدُ إلى وطنهم، لم يبخلوا على ثريا بزياراتهم و مُساندتهم … فهذا الفقيه محمد البصري و ذاك محمد أيت قدور، و الشاعر سعيد المغربي ظلّوا مُتواجدين باستمرار، أما محمد بنيحيى الذي اعتبر نفسه فردا من أفراد العائلة … رافق جمال و آسية طول تلك الفترة العصيبة في مواجهتهما للمرض اللعين، … كانت العلاقة التي بناها أهـل الـيسار فيما بينهم أخوية و نضالية و عفويّة …
كان القرار العائلي قد اتُّخذ … ” لن نُخْبر الوالدة برحيل عبد الرّحيم فالخبَرُ سيجعلُ معنويّاتها في الحضيض و هي ما تبقّى لها لمقاومة المرض”.
في أحد الصّباحات، حضرَ مُناضلٌ للاطمئنان على حالها، و طبعا جرّهما الحديثُ عن تطوّرات الأوضاع في البلاد، و كان لا يعلَم عن قرارنا عدم إخبارها برحيل القائد .
” الله يرحم السي عبد الرحيم، أ للاّ ثريا، الّلي كان كيوجّهنا، و اللّه يدير شي تاويل للحزبْ قالها بعفوية المناضل للمسؤولة الحزبية التي كانت …
إذن فقد رحل القائد يا آسية … و الآسفي كيف حاله ؟
” يُداري … يا والدتي لقد طافت بنا الخطوب … و دون شعور منّي، أردفتْ آسيّة، تسربلت من عينيّ دمعتين كفكفتهما بسُرعة …”.
قطّبت جبينها، و خاطبتني بصوتها الجوهـري الذي لم تفقدْهُ، رغـم الـهـزال و التّعب .
” إوا آسيّة جمْعي راسكْ يجبُ أن نكون أقوياء … فالآتي لن يكون بالبساطة التي تعتقدين … فصبرا و رجاء اطلبي لي الآسفي على الهاتف لأعزّيه …
ألو الآسفي … عزاؤنا واحد فالسّي عبد الرّحيم
بصعوبة أجابها كان صوتُهُ مُتقطّعا عبر السّمّاعة
في سبيل اللّه أ ثريّا…ڭالوها ليك … وْ كي بقيتي انتي ؟
كانت كمن شُفي، و بقوّة أكبر من تلك التي نهرتني بها قبل لحظات
” إوا الآسفي، يجبُ أن نُؤمّن الاستمراريّة و عليكم أن تحضّروا جنازة تـلـيـقُ برجل الدّولة الذي رحل …، و توّڭض . راه عاد غانبداو النضال … و السّي عبد الرّحمن … سيكون من رأيي خير خلف .
كنتُ متأثرا، يتذكّر الآسفي، من إيمانها و قُوّتها و صلابتها … في مرضها لم أستطع إكمال المكالمة و سلّمْتُ السّمّاعة لوفاء و أنا لا أزالُ أسمعُ صوتها قويّاً … و قولي له أن يؤجّل زيارته لي لما بعد أبـعـيـنـية الرّجل …و ليكن التأبين في المستوى و قصيدة الرثاء هل أكملها … و دوزيه ليّا ؟
احتبست الكـلمات في حلقي فـقـد كـنت موزّعا بين قـرار السفـر لـزيارتها، و الحضور لتأبين قائد و أخ رحل …
” الأعمار بيد الله، الآسفي، لا تَأت لزيارتي إلا و قد حضّرت للذكرى الأربعينية، أريد تغطية شاملة فالفقيد رجل دولة … لم يقبل التكريم في حياته …
لم تُقفِل السمّاعة حتّى أملت على أسماء نصّ برقيّة التّعزيّة التي أوصت قراءتها إبّان الحفل .
صَمَتَ الجميع … كانت الّلحظة مؤثرة أعادت للكبار زخم الذكريات … سامية و أسامة اللذان لم يعيشاها استطاعا فهمَ قوّة العلاقة التي جمعت بين مؤسسي حزب ” جدّهم وجدّتهم “و التي ما انفكّ والدهم يذكّرهم بضرورة الحفاظ على الذكرى من أجل الاستمرار على نفس النّهج .
لم أتخلف بالطّبع عن إحياء أربعينية عبد الرّحيم، استمرّ الآسفي، الذي عرفته قبل أكثر من نصف قرن في أحياء سلا العتيقة، فباب شعفة يذكر لقاءاتنا الأولى و نحن بعد شبابا متطلعين لمغرب حر متعدد، و كانت وسيلة تنقُّله الوحيدة، إذاك، درّاجته النّاريّة التي حافظ على التنقّل بها و هو وزيرٌ للدّولة بعد عودة الملك محمد الخامس من منفاه …
برقية التّعزية من باريس باسم المناضلة ثريا السقاط، أرسلتها من داخل مشفاها، ألقاها وديعة الطاهر الكاتب الإقليمي بنبرة لا تخلو من حسرة على الفقد أولا و على هاته العلل التي تأبطت بمناضلين من طينة نادرة كأنّ الزمن يرفض أن يقاسمونا الإنفراج، و التّحوّل السياسي الذي بدأت بوادرُهُ تتراءى.
كان يلقي تلك البرقية بعينين دامعتين فثريا توصي الخلف بالسير على نهج السلف و بالوحدة أساسا، فسياسات القوى المناهضة للتغيير تتطور و وجب التقدُّم لمحاربتها، و ختمت … تقووا بالوحدة … عاش الاتحاد الاشتراكي .
كانت الوصيّة و نبرة قراءتها قد لاقت تصفيقات قوية، وقفت لها القاعة عن آخرها …
حلّ أخيرا موعد السفر إلى الديار الفرنسية لزيارة الوالدة، تدخّل توفيق، تحلق ثلّة من المناضلين حول الوالد يلحّون في إبلاغ السلام داعين بالشفاء … كل من حضر التأبين أصر على تبليغ رسالة المواساة و التضامن .
هناك على الضفة الأخرى من الأبيض المتوسط لم يكن أحد في انتظارنا، … درسُ التنقل عبرمحطات مترو الأنفاق بباريس و حتى الحافلات العمومية تعلّمته من آسية التي أصرّت على مرافقتي للوالد … عزيز لم يتمكّن من السّفر فهو لازال ممنوعا من جواز سفره .
هل بوادر الانفراج هي أن يستمرّ مَنْعُ عمّي عزيز من أبسط حقوقه رغم العفو الملكي الذي استفاد منه قبل عقد من الزّمن ؟ تساءل أسامة مستغربا
هي تلك اللوبيات المناهضة للتّغيير والتي ستستمرّ يا ولدي و دورنا كان و لازال هو محاربة كلّ أشكالها .
كنت شاباًّ في الثلاثين، استمرّ توفيق، موزعا بين عدّة أحاسيس : اكتشافي لعاصمة الأنوار و رغبتي الجامحة الانفراد فيها بذاتي و لكنّ الظروف لم تكن لتسمح فبرفقتي أبٌ فقيه أحترمُ معتقداته و أهابه كذلك و في انتظاري أمٌّ عليلة …
” كيفاش كتعرف هادشي كُولُّو ؟ ” … سألني الوالد مستغربا و أنا أقتني تذاكر الحافلة و المترو، و أدعوه لأخذ الصّفّ لامتطاء الحافلة .
” آسيّة علمتني طريقة الوصول إلى المستشفى … يكفي أن نتّبع الخرائط و نتمكن من اللّغة الفرنسيّة ” .
” فعلا و جبت دراسةُ الّلغات الأجنبيّة، أنا الآن بوجادي و أنت هو والدي إن تركتني هنا سأتيه حتما، المعرفة كانت و ستزال أساس التقدّم ”
“سنأخذ الحافلة التي ستقلّنا الى محطة مترو الأنفاق الذي سيوصلنا بدوره إلى المستشفى رأساً يا والدي ” .
أرى الناس يهرولون، أظنها ضريبة التقدم فكل مهتم بنفسه، إلا أني أراهم يأخذون بعض المبردات رغم أننا في شهر فبراير .
نعم يا والدي فمن كثرة هرولتهم ربما أصابهم العَطَش
هو العطش إلى الجعة أليس كذلك يا توفيق ؟
خجلتُ و ظهرتْ علاماتُه على وجنتي، لم أكن أتصور يوما أن أوضع في هذا الموقف مع والدي الذي أصبح في لحظة صديقا من نفس سنّي …
أعرف مقدار خجلك مني يا ولدي، و مع ذلك يجب أن تعلم أنني أتفهم أنه في سنك من حقك احتساء جعة أو بعضها إن راقك ذلك …
كـان وقـت إقلاع الحافلة قد حلّ، و بعد أن أنهيت كل الإجراءات أخذنا مكاننا … و استمر الوالد
” لما كنا في فاس أواسط الأربعينيات و رغم انشغالاتنا السيّاسيّة، و الدراسية الأدبية و الفقهية، كان يحدث أن يجلب بعض أصدقائنا بعضا من المشروبات الغازية، و حتّى الرّوحيّة، التي كنا نتقاسمها، و في إحدى المرات زارنا فقيهنا و كنا نناقش بعض الدروس … لم يشأ إزعاجنا وطلب من صديق لنا إمداده ببعض المرطّبات في انتظار إنهاء النقاش الدّائر حول مواضيع فلسفية مرتبطة بما هو سياسي و روحي، و عند نهاية النقاش تدخل قائلا : ” أهنئكم على مستوى النقاش الدائر بينكم، و على المواضيع الدينية و الدنيوية التي تختارون ، كما أهنئكم على جودة مشروبكم الغازي الـرائـع، سأعمل عـلى زيارتكـم بـصـفـة مستمرة لـمـشـاركـتـكـم نـقـاشـكـم و مشروبكم “… فهم أنّ مشروبنا كان خليطا بما هو روحي و لم يشأ إحراجنا … لقد كان درسا كبيرا في التّسامُح و الانفتاح .
كان الوالد يحكي قصّته، و دُمُوعُهُ تُغالبه … هي ذكريات عصفت به و هو يتذكر فاس التي علّمته الكثير … لم أصدّق نفسي، لم يعد، الوالد، ذاك الذي كان قاسيّا … صار … مُرهفا، مُتفهّما و مُنفتحا …، رُبّما كان يبحث عن كيفيّة تعويض الأبناء … الغياب المحتمل … و لكن التّجربة خانته … لم يحسب للّحظة أيّ حساب …
عند محطة سان مارسيل المؤدية إلى مستشفى – La pitié Salpêtrière
” لقد وصلنا يا والدي “… رددتُها عدّة مرّات على مسامعه، لم ينتبه، فقد راح في تفكير عميق ربّما كان استعادة لكلّ تلك الذكريات …
محمد بنيحيى و آسية كانا على الرصيف منتظرين وصولنا …
عناق السّي محمد للوالد كان متميّزا فقد اعتبره نبراسه، تقاسم معه كل النجاحات و كل الإخفاقات و بقيا وفِيّيْن لبعضهما البعض .
كان بنيحيى يعتز بكون الآسفي ظل المُعلّم الذي عرفه منذ شبابه و القائد الـذي فـهـم تـوجّهاته في عـزّ الأزمات الحزبيّة و الـذي ظـلّ يـردد دائـمـا : ” أبنائي، إخواني و أبناء عمومتي هم من يتقاسمون معي همّ الوطن …”
راك كلّك شباب أسّي محمد … قالها بنيحيى بابتسامته الفريدة و المتميّزة …
” نحن أهل آسفي كالخمر المعتّق نزداد جمالا بتقدُّمنا في السّن، انظر إلى نظارة آسية ذات الأربعين و توفيق ذي الثلاثين أما أنا و من أعلى سنواتي السبعين فحدث و لا حرج “.
كان الجو شديد البرودة . وضعت آسية يدها في يدي باحثة عن حرارة ربّما افتقدتها … نظراتها كانت مُعَبّرةً . فوضعية الوالدة صارت حرجة .
كانت الممرضات تُوَزّعْـن، كما عهدن، الابتسامات في وجه الـقـادمين الجدد … و قد كانت آسيّة قد عرّفتنا قبل وصولنا .
C’est le papa militant … il parait très jeune, et lui c’est le cadet des frères, celui avec lequel tu partage toutes les bonnes choses que tu nous a raconté …
كان واضحا أن آسية قد نسجت علاقات خاصة مع كل القائمين على راحة ثريا فهي الوحيدة التي لم تكن تغادر المستشفى حتى تكون جميع الأطقم قد مرّت يوميا و لهذا كانوا قد لقبوها بآسية … آلة التنقيط …
بعد شهر من الغياب، دلف الآسفي باب غرفة ثريّا … كانت تجلس على سريرها و قد وضعت شالها الصوفي الوردي الباهت فوق كتفيها و على رأسها منديلُ حرير أبيض مزركش ببعض الرسوم الفرعونية المتقنة الألوان … كان شعر رأسها على قلته قد صُفّف بعناية فائقة … و قد ارتدتْ القميص الأبيض المزركش بذاك اللون الأحمر القاني الذي أحبّه الوالد .
حرصت آسية على تحضير ثريا لذاك اللقاء و كأنها تزفها من جديد لذاك الشاعر المعاند المكابر …
على شفَتَيْ ثريا وضعت آسية أحمرشفاه عَلمَتْ حُبَّ الآسفي له، و على العينين ذلك الكحل الجميل …
وضع قبلة على جبينها و أمسك يديها بغير قليل من الإحراج، فالرواسب … و كلّ الحاضرين منعاه من التعبير عمّا بدواخله …
– يالله خرجو … صاحت آسية في وجه كُلّ الحاضرين …
– أ خليوكم فين غاديين … ردّ الوالد بعفويّة
كانت ثريا تبتسم بملئ فيها و هي تشير لآسية بعينيها … هامسة
هادشي اللي عطا الله …
الجميعُ غادر القاعة …
و ظلا وحيدين …
كان مرتبكا، حائرا، و رافضا للوضع … حكى عن أشياء مهمة و تافهة
” كان الله في عونه و في عونكم فكأني به طفل تائه يبحث عن أم افتقدها منذ الصغر … عوّضها بعد حين … و هو على وشك فقدها مرّةً أخرى وإلى الأبد … أوصيكم به أحبتي، أعرف جيدا أنني كنت مسؤولة عن اعتماده علي أولا … ولكنه بذل مجهودا جبارا للانسلاخ من واقع ذكوري، ورَفض الـثقافة التي تمناها له والـده … أظـن أنه لـم يستوعب بعـدُ حالـتي، و يعتقد أنني سأُشفى، و أعودُ كما كُنْتُ … ” لاحظت ثُريّا … بعد أن طلبت رجوعنا إلى الغُرفة و أضافت
” أوصيكم به مرّةً أخرى و أتمنى أن تستطيعوا إقناعه بالارتباط بسيدة تتقاسم معه ما تبقّى من أيامه، فهو لن يستطيع استكمال المشوار وحيدا … ابحثوا عن سيدة مثقفة، … لن تكون طباخة طبعا فهذا ليس بالسهل … و لكنّي على يقين بأنكم ستتكلّفون بتوفير الشهيوات التي يحب ” كانت الوالدة حازمة و شُجاعة في رسالتها التي همسَتْ بها لي و آسيّة و هو يغادر غرفتها .
و متجهة نحوي و لم أكن قد تكلَّمْتُ …
” سأرحل يا وَلدي تكلّف بمصاريف دفني، هذا شيك أوقعه لك على بياض و هذا طلب للبنك من أجل إمدادك بكشف حسابي البنكي، اسحب رصيدي و أظنه لن يتعدّى ال 2500 درهما، أعتبره صدقة على كل حال …”
باراكا … الله يطول عمرك آ مّي…، اعفيني من مثل هاته الوصايا، …
” الوصية ما تحيي ما تقتل أوليدي … الله يرضي عليك، و نزيدك .. هاك، هاذي راها شهادة الدكتوراة في الفيزياء النووية ديال العربي راه جا بها ليّا من غرونوبل الليلة الّلي خداها، هي أمنيتي حقّقها، الله يرضي عليه، … عيطَات عليه أمريكا باش يخدم معاهم فAL NASA … و رْفضْ … فَضَّل فرنسا الديموقراطية، حيّها اللاتيني و أدباءه، فرنسا فـيكـتور هـيـغـو و جان جاك روسو … اقترحوا عليه منصبا لتعليم الأجيال فقبل دون تردّد … و المغرب … لم يكثرث له … احفظها مع كلّ الشهادات التي أجمعها في الدّرج الأوّل في خزانة ملابسي، أنت تعرفه جيّدا، ودابا بغيت نعس الله يصبّحكم على خير سيرو غْدّا جيوْ بْكْري …”
كان ذاك مساء يوم الثلاثاء 18 فبراير 1992 .
صباح الأربعاء تكلفْت بفطور الوالد … قبل أن أنتقل الى المشفى، أمّا هو فقد فضّل تأخير الزيّارة إلى المساء .
وجدناهم قد سهروا على حمّامها اليومي … كانوا يُكَلّمونها و هي
تهمهم بكلمات لم أفهم منها الا أنها تَعبت من وضعها و لأوّل مرّة بَكَتْ … و نامت … بل غابت عن الوعي .
أخذوها الى العناية المركّزة … و أعادوها إلى الغرفة بعد ساعات … عند حلول الوالد … كانت ثريا لا تزالُ في غيبوبتها منذ صباح ذاك اليوم الحزين .
فضّل العودة إلى المنزل مشيا على الأقدام رفقة جمال و بنيحيى … كان يتحدث عن باريس و الأصدقاء و الحزب … و كأنه يحاول مراوغة واقع لا مفر منه … فهو لم يتحمل رحيل عبد الرحيم، فكيف يتحتمل مجرّد التفكير في احتمال رحيل ثريا …
مقام العائلة كان بمنزل الصحافي المغربي محمد باهي، كان البيت مكونا من عدة غرف … بمساحات مختلفة و كانت تتميز بأثاثها المكون أساسا من بعض أسرة للنوم، و كنب عديدة للجلوس .
محمد باهي مناضل اتحادي، و صحافي عالمي متميز ترك بصمته على الحقل الصحافي على مستوى العالم العربي ككل، عشق الكتاب و جعله أنيسه بكل ما في الكلمة من معنى فجوانب غرف بيته و ممرّاته كانت مملوءة بكلّ أنواعها و حتّى مرحاضه كانت به كتب مختارةٌ بعناية تجعلك تستفيد منها و أنت في أكثر الأمكنة حميمية .
حلّ ليل ذلك الأربعاء الحزين، و كان حالكا، كنّا بقاعة الانتظارالمُطلّة على حديقة المُستشفى الفسيحة، رفعت آسية أكفها داعية الربّ التّرويح عن الوالدة أو أخذ روحها إن كانت ستظل تتألّمُ و ترسل ذاك الأنين الحزين
” تلزمنا بعض السجائر و فناجين قهوة يا توفيق فالليل ربما سيطول … عَرّج على غرفة الوالدة فربما استفاقت و طلبتْ شيئاً …”
و أنا ألج الغرفة كان الأنين قد انقطع و تورّدت وجنتا الوالدة، و على شفتيها ارتسمت ابتسامةٌ هادئة هدوء قسمات وجهها … توجّستُ، تجمّدتْ أطرافي و قبل أن أهُـمَّ بالعودة لإخبار أسيّة، كانت قد وصلتْ و احتضتني، و وضعت رأسها، بهدوء، فوق ظهري، تأكّدتُ أنّ اللّحظة التي نعيشُ معا هي أولى لحظات اليتم و فراق الأم … رحلت ثريا بهدوء مساء ذاك الأربعاء البارد .
موقفٌ من المواقف القويّة و المؤثّرة، عادت بقوّة … و ظهرت على جميع الحاضرين في جلسة الحكي تلك … حتّى على من لم يعشها من الأحفاد … انتبهت سامية الى شُغُور مكان جدّتها، بحثث يمينا و يسارا و لا أثر، رفعت عيناها إلى السّماء … كانت ثريّا تودّعها من الأعالي و قد ارتدت ذاك الثّوب الأبيض الجميل .
ضمّتها آسيّة قائلةً … لقد رحَلَتْ يا صغيرتي فلنُتمّ حكينا يا توفيق …
عند عودتنا من المستشفى … كان جمال أولَ المستقبلين
كنا على غير موعدنا، فقد كان الاتّفاق أن نبيت مع الوالدة،
بهدوء،وصبر همس معانقا آسيّة :
Alors c’est fini n’est ce pas ? … قالها و انبرى، و قد علت وجهه شحوبة الموت، لم يبك …
اتجهنا نحو الوالد الذي كان رافضا لأي احتمال غير الشّفاء …
– نامت إذا … قالها متسائلا عن سبب العودة السّريعة
– لا بل الله يرحمها أ بّا … مّي ماتت … ثريا ماتت … … …
غاب عن الوعي للحظات … لم تفتر خلالها آسية من إعادة الإخبار، فقد انـتـبـهـت إلى أنّ هاته العملية ضروريّة حتى يـتـقـبـل، الوالد، الواقع الجديد و الذي لم يكن قد جعلهُ في الحسبان طول حياته .
رنّ الهاتف، كان عبد الرحمن اليوسفي الأخ و الصديق من البيضاء أول الـمـعـَزّيـن، فقد استغل محمد بنيحيى لحظات التيه التي انتابت أفراد العائلة و أبلغه بالفاجعة التي حلّت بأهل الوديع …
كان عبد الرحمن، متأثرا فقد اعتبر ثريا بمثابة الأخت الصغرى الحريصة على كل التوازنات عائلية و سياسية … تحدث مطولا مع الوالد في مواضيع وجدانية جمعتهما جميعا منذ نصف قرن .
” سيتصلون بك، لتسهيل مأمورية العودة إلى أرض الوطن، سلامي، مودتي و إلى اللقاء …”
لم يكد يضع السماعة، و الساعة قد أشرفت على منتصف الليل حتى رن الهاتف مجددا … كان على الخط رئيس وزراء فرنسا … كلّفه عبد الرحمن بتقديم تعازي الحزب الاشتراكي الفرنسي و الحكومة الفرنسية في فقد المغرب لثريا السقاط .
صلاح طلبني عبر الهاتف وأصرّ على مكالمتي
” أهلا توفيق، عليك المعول في شحذ الهمم، و السهر على رفع المعنويات فـالـفـقـد كـبـيـر Ce sont les moments les plus forts de la vie … عليك الاعتماد …” كانت في صوته بُحّة حزينة تشي بما يحاول إخفاءه من تأثّر واضح .
و بين دموع فرح ودموع حزن، استعاد الوالدُ نشاطه، فبقدر حزنه على فقدان من رافقته لنصف قرن، بقدر انتشائه بهذا الاعتراف العالمي بقيمتها و جسدها لازال مسجيا في غرفتها بالمستشفى …
جمال أصرّ على الاستجابة لرغبة ثريا التي كانت ترددها طوال حياتها و تُذَكّر بها جميع أبنائها :
” عـند وفـاتي، أرجوكـم بعـد غسل جثتي أن تضعوا عليها عطري المفضل …” و هي الوصيّة التي نفّذتها آسيّة…، و كان جمال قد اقتنى عطرها المُفضّل و جعله معه في حلّه و ترحاله حتى يكون مستعدا لتنفيذ وصيّتها .
السفير المغربي بفرنسا آنذاك كان من بين المعزين عبر الهاتف، فعباس الفاسي سليل أسرة مناضلة عميدها صديقٌ حميمٌ للآسفي، علال الفاسي، قاسَم الوالدَ كثيرا من المبادئ السامية و اعتبره الأخير أستاذا في الوطنية، في الفقه … و في إعطاء المَثل، فعلال الفاسي، هو الوحيدُ الذي كانت له الشجاعةُ لوضع العصمة بين يدي زوجته و هو في طريقه إلى منفاه البعيد و الطويل .
التحق العربي بباريس للمؤازرة و إلقاء التحية الأخيرة .
خالد التحق رأسا بالبيضاء، أما جمال فقد ظل بباريس لظروف خاصة … كان موزعا بين عواطفه و وضعيته القانونية التي لم تكن تسمح له بهاته المخاطرة … آسية و من يومها لبست جُبَّة الأم .
كان الاستقبال على درج الطائرة مؤثرا، عبد الرحمن في المقدمة و جميع أعضاء المكتب السياسي، العائلة في شخص صلاح المنهار، أما الوالد فقد كان موزعا، غلبته دموعه لأول مرة منذ رحيل ثريا قبل يومين … هو تأثُّرٌ لحجم الاستقبال … كان حتما يتمنى أن تعيشه ثريا فهو تكريمٌ وطنيٌّ خاصٌّ.
جميع الأطياف حضرت لتشييع الجنازة و البيضاء كانت في حداد يوم الدفن حتى مختلف فصائل الشرطة حضرت …
صلاح بصمود أبّن ثُريّا و هو يكادُ يسقُطُ من هول الفاجعة قائلا :
إذن فقد حلّ الفراقُ..ولا مفرّ منهُ،
و الـيـوم ترحلين أيّتُها الحـبـيـبـة،
فـالـوداع .. الـوداع .. يــا ثُــريّــا
الـوداع أيّـتُـها الصّـخـرةُ الـنبـيلة،
الـوداع أيّـتُها الـشّـجـرةُ الـوارفة،
الـــوداع أيّــتُـها الأُمُّ الــحــانــيّـة،
الـوداع و مـا أقـسـاهُ مـن وداع …
سيل من برقيات التعازي الوطنية و الدولية …
أمّا إدريس البصري الوزير القوي فقد عزّى عبر برقية مقتضبة تُذَكّر بمناقب الفقيدة …
” إذن فقد عزّى باسم الملك آنذاك، أليس كذلك يا أبي و هي التّعزيّة التي تساءلتُ عن سرّ غيابها عن جدران بيتنا في بداية حكيك … !!! .”
ربّما هو كذلك …
عزيز ظل صمُوتا بعد رحيل الوالدة، هو الذي تعذّر عليه السفر لوداعها، فبعد مرور زهاء عقد منذ صدور العفو الملكي، لم يتمكن من استلام جواز سفره رغم محاولاته إقناع السّلُطات بكلّ السّبُل لتمكينه منه و السّماح له بإلقاء التّحيّة الأخيرة .
الحاج بليوط بوشنتوف مقاومٌ و صديق حميم للوالد كان من أوائل من عزّاه و صاحَبَهُ في محنة ذاك الفراق، فرغم اختلاف الرؤى حول السّياسات المُتّبَعة، حالت الوطنيّة الصّادقةُ التي جمعتهما دون أن تنقطع علاقَتُهُما، بل توطّدت مع تقدّمهما في السّن، فقد كان الحاج بليوط يعتبر الآسفي قائدا مثاليا، و وطنيّا غيورا حتى أنه اختار أن يلقبه ب” ماو ” المغرب …
بالفعل، استطرد الآسفي، كان كذلك، و كان يتمنّى في قرارة نفسه أن يتولّى حزبُنا قيادة الحكومة المغربيّة .
في إحدى زياراته التي سهر على الحفاظ على تواترها و جعلها نصف شهرية، صادف، الحاج بليوط، تشكّي عزيز من تعنت الإدارة التي لم تستجب مرة أخرى لطلبه الحصول على جواز سفره .
كان الحاج يتابع نقاشي و عزيز، دون تدخّل و عند انتهائنا اكتفى … بالدعاء للمغرب و مسيّريه بالهداية و ودعني متمنيا لقائي في ظروف أحسن .
بعد أقل من أسبوع على تلك الزيارة، رنّ جرس الباب حوالي السّاعة السادسة مساء و كان عليه مقدّم الحيّ، سأل عن عزيز الذي كان غائبا حينها، لم نُعر للأمر أيّ اهتمام .
عند عودة عزيز و اللّيل قد قارب منتصفه، وجد المُقدّم لا زال منتظرا على الباب، و كان في حالة من النّرفزة لم تكن معهودة فيه
” تْعْطّلتي علينا أصاحبي غدّا فالثمنيا دْ الصبْح تكون عندنا أنا مزااااوك .”
“ياك لاباس آش واقع ليكم ؟”
” والو غير آجي وغا تعرف، اللّه أعلمْ آش بغاووك فالمُقاطعة ”
في صباح اليوم المُوالي كان عزيز على باب المقاطعة الحضريّة .
رجاء بسرعة إنّهم ينتظرونك على باب الولاية، دغيا راه شاعلا فيهم العافية … عافاك … سربي “، قالها حارس الأمن و هو يعطي لعزيز السّلام العسكري الرّسمي … و على باب الولاية كان جميعُ المسؤولين في الانتظار لتسليمه جواز سفره …
شكرَعزيز المسؤول عن الكتابة الخاصة للسيد الوالي على السّرعة في تحضير جوازه … و أمدّه بنسخة من الطّلب التي يعود تاريخه الى ستّ سنوات خلت .
تأبط الوثيقة و عاد إلى المنزل يخبرني بما وقع و على وجهه علامات الاستغراب …
زوال نفس اليوم، حضر الحاج بليوط، وتكلّمنا في عدّة مواضيعَ، و بعد نهاية زيارته … و هو يهمّ بوداعي سألني عن عزيز وجوازه … و عند إخباره بما وقع … عاد، جلس و حكى … فكان مفتاح الّلغز …
ففي لقاء جمعه و الملك الحسن الثاني، قبل أقل من يومين، لم يترك الحاج الفرصة تمر دون مفاتحته في موضوع عدم تمكّن عزيز الوديع من جواز سفره، مذكرا بأن والد المعني بالأمر من المقاومين الذين أبلوا البلاء الحسن إبان فترة نفي الملك محمد الخامس، كما أنه ظل نزيها و وطنيا رغم كل الاختلافات …
” و من يكـون هذا المقاوم أسّي بليوط و ما سـر منع ولـده من جـواز سـفـره “سأل الملك مستغرباً الطّلَبَ …
“إنه محمّد الوديع الآسفي، و ابنه من مجموعة السرفاتي و قد سبق و أن عفوت عنه قبل عشر سنوات تقريبا …”
” أعرف … أعرف … إنه ابن ذلك الشاعر العصامي … الثّائر … صديق الـيـوسـفـي أليس كذلك ؟ لـقـد كُنتُ قد سلّمتُهُ شخصيّا جائزة المغـرب للـشّعـر و أنا بعدُ وليّا للعهد ”
” بالفعل يا جلالة الملك …”
و في الحين أرسل في طلب وزيره في الـداخـلـيـة و اسـتفسره في حضوري …
” لقد علمتُ أنّ بعض المُعتقلين الذين عفوتُ عنهم منذ عشر سنواتَ لم يتسلّموا بعْدُ جوازات سفرهم و منهم المُسمّى عبد العزيز الوديع، هل هناك ما يمنع من ذلك “.
تلعثم الوزير القوي، و نظر في اتّجاهي فهو يعلم جيّدا العلاقة التي تجمعُني بك، و حاول الدفاع عن موقفه من المنع احتراسا من ” كل ما من شأنه أن يمس بأمن الدولة ” …
” لقد أصدرت عفوي الشامل، و ليس لك أن تتدخل فيه، أطلب منك أن تعطي أوامرك بـتـمـكـيـن المعـني بالأمر،و أصدقائه من جوازات سفـرهم فورا …”
و ملتفتا نحوي … أرجو أن تخبرني بمستجدات هذا الموضوع فأنا أعلم أنك على صلة وطيدة بالآسفي فوطنيّته الصّادقة لا تخفى على أحد …
هذا كل ما في الأمر و رُبّما هو لغز السّرعة في التّسليم .
لـم يـكـن مـنّي إلا أن شـكـرته و طلبت منه تبليغ الملك شكـرنا لتدخّله ذاك، و الّذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ طريق نضالنا لا زال طويلا لاجثتاث المنابع التي تقف حجرة عثرى في وجه بناء مغرب حداثي يكون فيه القانون سيّد الجميع .
سأشكره طبعا أ سّي محمد، بشرط أن تُعفيني من تبليغ مثل هاته الرسائل القويّة … و أعدك أنّني سأعمل ما في وسعي لإبلاغها بطرقي الخاصّة …
في إحدى المناسبات، استمرّ الآسفي، استدعاني الحاج إلى طعام عشاء، في بيته، كان مخصّصا لعائلته الصّغيرة … و كان يعتبرني منها … لم أتعرف على جميع من حضر و عندما هممت للمغادرة حرص على تقديمي لزوجة ابنه التي لم تكن إلا الأميرة للا أسماء …
” أظنك لم تتعرف على أميرتنا الشّريفة للا أسماء …”
” بالفعل، لم أتعرّف عليها، لبساطتها، فأنا لم أُميّز بينها وبين أهل الدّار، بوركت يا بُنيّتي و رحم الّله جدّك المُميّز، كان صديقا و مناضلا وطنيّا ”
لم يترُك الحاج للأميرة فُرصةً للتّساؤُل عن هويّتي
” إنه الآسفي صديق حميم لجدّك المغفور له محمد الخامس …”
كان السّلام متميزا و اللحظة مؤثرة … خصوصا و أن تعاملها كان عاديا مع حماها و ضيوفه، بل وحرصت على تقاسمنا نفس الطعام التي سهرت على المساعدة في تقديمه …
بعد أسابيع من وفاة الوالدة، استمرّ توفيق، … خفّت حدّةُ زيارات المواساة … إلى أن توقّفَتْ، و لم يَقلّ حجم الحزن كما يُشاع … بل كبر مع مرور الأيام و فهم الجميع ما كانت تردده ثريا و هي تزور لطيفة بعد رحيل عمر بنجلون : ” كيفك مع الوحش الدايم ؟” و الوحش بالعامية طبعا هو الحنين إلى الغائب
إذن وجب، علينا التأقلم مع ” الوحش الدايم “.
أسبوعان بعد الوفاة، حلّ شهر رمضان … و كانت شعائره خاصّةً، ففي أول يوم من أيّامه يجتمع جميع أفراد العائلة حول ثريّا و محمّد على مائدة الفطور …
البنات يرتدين أجمل ملابسهن التقليدية بالمناسبة، يُحَضّرن الحريرة و ما تلزمه مائدة شهر رمضان … و لكنّ المائدة تيتّمت، و غابت عنها كلّ أصناف الحلوى التي كانت ثريا تبدع في تحضيرها … رغم مُحاولات البنات تعويض الغياب …
طقوس الشهر الفضيل كانت خاصة، فحتى حدود السنة التي سبقت رحيلها، سهرت، ثُريّا، على تحضير الشباكية و ” سلو ” الذي كان الوالد لا يقبل بغيره كمرافق لقهوة ما بعد الفطور .
على غير عادته، ملأ الوالد الجوّ تنكيتا لتجاوز حالة الحزن و الانهيار التي بدا عليها الجميع، رافقته آسية طبعا و جعلا من اللحظة متعة و تقاسم ذكريات …
وفاء و أسماء حرصتا على الإعداد و التقديم دون إغفال أدقّ الأمور، عزيز كان يداري ألمه بين رواح و غدو بين غرفة الأكل و المطبخ … آسية طبعا، كانت الساهرة الأمينة على راحة الوالد فهو من وصايا ثريا القليلة …
صلاح لم يحتمل … راح في بكاء طويل … و كانت دموعه حرّى لم يستطع التّحكّم فيها … وضعت آسية رأسه على صدرها، و تركته يبثها كل الآلام التي رافقته منذ مُدّة …
صاح الوالد في وجه الجميع …
” إوا جمعوا راسكم … راه باق الطريق طويلة، وااابكري … علوّلنا عليكُم.”.
ظل الآسفي، يتحدث عن ثريا بصيغة الحاضر، طول حياته، و كأنها لم تغب، و هي الوحيدة التي لم يستطع رثاءها .
حرص مجموعة من رفاق الطريق، تابع توفيق، على الاستمرار في زيارات الآسفي الأسبوعية، فعبد الرّحمن اليوسفي لم تمنعه مسؤوليّاتُه من الحفاظ على مواعيده الأسبوعيّة، و لم يكن ليقبل بأقل من رأي، الفقيه، في مواضيع وطنيّةً و حتّى دوليّة قبل العودة المسائية إلى مقر إقامته .
عبد الحق السبتي و رغم معاناته مع المرض الذي لازمه ظل مواظبا على هـاته الرفـقـة إلا قـهـوتـه، الـتي كـان يعـشق طـريـقـة ثـريّا في تحضيـرها و تقديمها … فقد تنازل عنها برحيلها .
عبد الله الشرقاوي حافظ كذلك على استشاراته، و الاستفادة من تجربته خلال مسؤوليّاته الجماعيّة، و حتّى في كل الأمور السياسية و الدينية .
سنة الرحيل الأولى عرفت تخليدا للذكرى بما يليق ولكنّ مع حلول صيفها ستحلّ فاجعةٌ أخرى، ففي أحد مساءات شهر يونيو من سنة 1993 حلت آسية واجمة باكية و كنتُ على الباب …
” لقد رحلت خالتي فاطمة يا توفيق .”
كانت، خالتي، هي أول من ضمني عند عودتي حاملا نعش والدتي، فرغم مرضها كابرت و اختارت مكانا قصيا يتيح لها رُؤيَةَ ذاك النعش دون الاقتراب منه، كـياستها من كـياسة ثريا، فـرغـم تـلـقـيها طعـنات عدة مادية و معنوية ظلت هامتها في السماء و حافظت على أناقتها و هي الجملية الخَلق و الخُلق … الوالد تلقى طعنة ثالثة في ظرف لا يتعدي السنتين … رحيل فاطمة بعد عبد الرحيم بوعبيد و ثريا …
فاطمة السقاط كانت مناضلة صموتة، تدخّل الآسفي شارحا، لم تشأ أن تُظْهر ميولاتها السياسية رغم أنّني كنت أعتمد عليها في إيصال رسائل سرية بيني و بين مجموعة من القياديين في حزب القوات الشعبية و على رأسهم الفقيه محمد البصري، كان شرطها الوحيد … هو عدم إفشاء هذا الارتباط لأي كان، فحتى من أوصلت لهم تلك الرسائل لم يكونوا على علم بهويّتها، و عند عقد قرانها طلبت منّي إنهاء ارتباطها السياسي، و عدم عودتي للموضوع و لو بالإشارة … إلا أنّها داومت السّؤال عن أحوال الفقيه، و عـن الرّفاق في المهجر، كـلـّما ساءت الأحوال السياسية الدّاخليّة، و كانت حين انتباه أحد الحاضرين إلى سؤالها الغريب، عن الفقيه، تجيب بتلقائية و نكتة :
” إنه الفقيه الذي بفضله اقترنت و أب أبنائي …”
كان رحيل فاطمة، فاجعة بالنسبة لي … بَكَيْتُها كثريّا …
لم يكن توالي الفواجع بالسّهل على السيّدة التي ربت كل هاته الاجيال من الوطنيين الصادقين، و هي المؤمنة بقضاء الله و قدره … كانت تعتبر توالي الفواجع امتحانا لقوة إيمانها … و بصَمْت النبلاء رحلت الجدّة غيثة بوهلال بعد أيام على رحيل فاطمة تاركة إرثا معنويا لا يقدر بثمن … هي التي لم تكن تتوقّت، مُنذُ رحيل عبد الرّحيم السقاط عن ترديد لحنه الخالد …
ركبنا قطار الحياة … و بقات ورانا الذكريات … أنت فين و انا فين …
قصيدة اغتيال القمر منشورة بديوانها ‘ أغنيات خارج الزمن “
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…