فسحة رمضان (26)
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر : منير الشرقي
توفيق الوديع
استشهاد عمر بنجلون …وتحول عادات الأسرة …
الشهيد عمر بنجلون …
” كنت عائدا من ثانوية المولى إدريس الأوّل يوم الخميس 18 دجنبر 1975 حين شدَّني ذلك الحشد من رجال الشرطة، المتحلّقين حول منزل عمّي عمر، ظننت أنّها حادثة سير مُروعة، و حين سألت أحد المارّة أخبرني أن إسكافيا قتل محاميًّا لم يؤدّ ما بذمّته، لم أكثرث و أكملت طريقي إلى محطة الحافلة ” كان العربي يستعيد ذكريات يوم لم يكن كباقي الأيام واستمرّ …
حين أخبرنا الوالد، و هو يلج المنزل مساء، بمقتل عمر … لم أصدّق أنّ حشد الظّهيرة و رجال الشّرطة كانوا مُتحلّقين حول جثّته فقد كان قد اغتيل لحظات قبل مروري من هناك …
شرودٌ و ذهول عمّ جميع أفراد العائلة فعمربنجلون كان جزء منها …”
سقط عمر شهيدا بباب منزله، و كان الوالد قد حذّره مرارا و نصحه بالاستعانة بحارس خاصّ، فالأشجار الوارفة كانت تمنع الرؤية ليلاً و نهاراً، و رغم قصر المسافة بين مركن السيّارة و باب البيت فقد كان قَطْعها محفوفا بالمخاطر، لكنّه كان يواجه تحذيراته بقوة إرادة لا مثيل لها،و بقهقهات متميّزة، فقد كان يعتبر أن ما يعيشه ما هو إلا ” خير من عند سيدي ربي فلو أنّ أحكام الإعدام التي حوكمتُ بها طُبّقت لكنتُ في عداد الموتى منذ زمان .”
مات عُمَر و هو شابٌّ في الأربعين من عمره، تدخّل الآسفي مُعلّقا، كما المهديُّ ففي سنّهما أضْحَيَا خطراً على كلّ المُناهضين للتغيير، المُتحكّمين في دواليب الدّولة، مسخّرين كُلّ الإديولوجيّات و لو على حساب المُعتقدات الدينيّة و ذلك بتكفير هذا و إهدار دم ذاك، و عُمرُ أدّى الثّمن .
عبد الكريم مطيع إسم سيتردّد كثيرا بعد هذا الاغتيال، و رغم أنّي لم أكن أتصوّرُ أن يرتبط اسمهُ بالجريمة، لكني لم أتفاجأ كثيرا، فبعد أن كان مواظبا على زيارتي نهاية كل أسبوع بحكم انتمائه إلى هيئة التّعليم و مسؤوليّاته النّقابيّة والسيّاسيّة، إلا أنّ طبائعه بدأت تتغير شيئا فشيئا، فقد أرخى لحيته و على غير عادته،أضحى يتحاشى السّلام على ثريا، وهذا ما لم أستسغه. فاتحته في الأمر مساء أحد الآحاد … فبدأ يحدّثني عن مفهوم مغاير للإسلام الذي تعلّمناه على أيدي فقهائنا الأجلاء، إسلام ليس للمجادلة فيه مكان و لا للمرأة حقوق، هي آراء مخالفة لما عهدنا … مفهوم عنيف للدِّين … كان ردُّه مفاجئا و صادما، و لكنّه متماشيا مع السياسات التي نهجتها وزارة الداخلية آنذاك، و التي كان هدفها الأساس هو إيجاد قوة ردع للمد اليساري الإشتراكي و الشّيوعي و هو ما سماه عبد الكريم بالإلحادي الذي وجب قطع دابره … طلبت منه مغادرة منزلي وعدم العودة نهائيا، لم يتقبل الأمر و طلب من الله هدايتي إلا أنني قابلته بطبيعتي البدوية العنيفة صارخا : ” أ خرج برَّا … برَّا … و لا تعد أبدا … ” كان ذلك قبل مُدّة قليلة من الاغتيال…
فقدت جزء كبيرا مني و أنا أودع عمر و قد قلت في أربعينيّته :
يـدُ الغـدرعادتْ تزرعُ الشّـرّ و الإثـمـا ۩ و تحـصُـدُ من أبـنائـنا البطل الشّهما
و تــغــتـالُ مــن أفــذاذنــا كُــلّ ثــائـر ۩ عـظـيـم يـفـيـضُ رغـمَ ثـورته حـلماَ
و تـمـتـدّ للأبــطــال عــبـر نـضـالـهـم ۩ لتسلُبَ منّا الرّوح و القَلْبَ و العَزما
حـــيــاتُــك قـــصّــةٌ، إطـــارُهــا أُمّـــةٌ ۩ و أبعـادُها تحـكي النّضال المُجـسّـما
شــريــطٌ طــويـلٌ رائــعٌ مُــتــحــمــّسٌ ۩ يـديـنُ الـتّخـلّي و الكـفاح الـمـُلـثـمـا
و بــلـّـغ إلـى الـمـهــديّ أصــدقَ آيــة ۩ على أنّنا في العـيش لا نقبلُ الضّيمَا
و نـمشي على النّهج العَظيم في يَقظَة ۩ و نـرصـدها تـنـمـو مُـعــزّزةً دعـمـا
و يُـلهـبـُنا الجـيـلُ الـجـديــد حـمـاسـةً ۩ و عـزما و إصراراً و مُنطلقا أسمى
إلـى أن يــنـال الـشّـعــبُ آمـالـهُ الـتي ۩ رَصَـدْتَ لها الحياةَ و التّعـب الـجـمّا
* * * * *
تحول كبير طرأ على عادات الأسرة، استطردت ثريّا، بعد اغتيال الـشّـهـيـد و الذي تزامن و استمرار اختطاف صلاح وعزيز، تاه جدّكما لفترة ليست باليسيرة و لم يعد يتحمل لقاء لطيفة، في غياب عمر، لكنّه سيحافظ طول حياته عـلى زيارتها، بصفة دوريّة، حفاظا عـلى عـهـد قطعه على نـفـسـه، و هي اعتبرته، بمثابة الأخ الأكبر و أصرت على اقتسام لحظات فرح و قرح العائلة .
قبل اغتيال عمر كانت وجهتنا صباحات الأعياد الدينية و الوطنية نحو منزل والدة توأم الروح، عبد الرحمن اليوسفي، المنفي قسرا، فالآسفي كان يصرّ على الاستمتاع بأخذ قهوته الصباحية إلى جانبها، السّؤال عنها و عن وليدها، و كانت الحاجّة، تسأله عن مستجدّات الأحوال السيّاسيّة، و تناقشه بعفوية و بساطة عن أدقّ الأمور، و لا تجد حرجا في تكليفه لقضاء بعض الأغراض الخاصة بالمنزل، و تستشيره في عدّة أمور لاعتبارها إبنا كاتما لأسرارها…
بعد اغتيال عمر أضيفت إلى برنامج الزيّارات زيارة لطيفة، سهام، كـمـال و صلاح قبل التّعريج على أُسر المعتقلين .
سنتان مرّتا على الحدث الفاجعة، و كان غسان، الحفيد المشاغب، يحتفل بعيد ميلاده الثاني حين بدأت، بعد فترة اختطاف و حبسٍ طويلة، محاكمة صلاح، عزيز و الرّفاق .
… و إبّان المُحاكمة الشّهيرة، لما أضحى يُعرف بقضية ” السّرفاتي و من معه “، زار مولاي مصطفى العلوي، الصديق الحميم لجدّكم منزلنا، و كان إذاك عاملا على مدينة الدار البيضاء …
بعد الترحيب و تقديم كؤوس الشاي، تدخّل الآسفي مُتذكّرا، تحدّثنا باستفاضة عن إرث الشيخ السلفي المناضل مولاي محمد بن العربي العلوي و واجب الحفاظ عليه، و عن ذكرياتنا بمدينة مكناس و نضالاتنا من أجل رجوع الرّاحل محمد الخامس إلى عرشه، قبل أن ألومه عن شُحّ زياراته بخلاف أخيه مولاي امحمد الذي داوم على انتظامها .
كان الرّجُل شديد الحياء، متواضعا و كوالده لم يُظْهر يوما أيّة علامة تدلّ على وضعه الاجتماعي، لسبب بسيط أنّه ورث عنه قيم الحياة التي تُختزلُ في المقولة الشّهيرة ” تكلّم لأراك …” و بعد أن استأذن للرحيل أخذني جانبا و قال بهمس :
” أرجو أن تتمكن من التدخّل لدى الشّباب المعتقلين، و تحثهم على عدم التعبير عن رأيهم في أمور الوحدة الترابيّة، إبّان المُحاكمة، و سترى أن الأحكام ستكون مخفّفة، و على سبيل الذكر فمحيط الملك يتساءل عن سبب عدم نظمك لقصائد في مدحه بخلاف ما كنت عليه على عهد الراحل محمد الخامس …”
أجبته بهدوء … ” تعلم جيدا صديقي مصطفى أن تربيتنا، نحن الإثنين مستمدّة من تعاليم والدك، الذي فضل الابتعاد عن مركز القرار و الذهاب هناك بعيدا في أقاصي تافيلالت زاده الوحيد حليب عنزته، بعض الدّجاجات، و ما تدره بعض الأمتار المربعة من القمح الذي كانت تعدُّ به والدتكم خُبزكم، و لهذا فلا يمكن أن نحيد عن ذاك المسار فلا أنت و لا أنا عاقان، و للشيخ علينا عهدٌ وجب الحفاظ عليه : الحرية في التعبير عن الرأي و الاختلاف في ظل وطنية صادقة و ملكية ديمقراطية، و لهذا لن أستطيع الثأثير على أبنائي الذين أصبحوا رجالا لهم آراؤهم و مواقفُهم تُحترم .
أما عن محيط الملك و تساؤُله، فبلّغهُ أن لكُلّ زمن مواقفه، و أنني لست على استعداد لنفاق ملك يَعْلَمُ جيّدًا مواقفنا الوطنيّةَ و يحترمها، و يعتزُّ بوطنيّتنا، رغم اختلاف الرّأى، و سنستمر و يستمر أبناؤنا و أحفادنا من بعدنا حتى تتحقق الملكية البرلمانية الديمقراطية، و أنا على يقين بأن تقدُّم البلاد رهين بتحقيق هاته المبادئ و الأهداف التّي لقننا جُلّها والدكم الذي يُعدّ نبراسا لنا و للأسرة العلوية “.
غادرني مولاي مصطفى بعد أن عانقني بحرارة، و شكرني فقد تأكد بالملموس أنه أمام تلميذ نجيب من تلامذة الشيخ .
أما الملك فقد أكبر الموقف و القرار … لكنّ الأحكام التي صدرت، كانت بقساوة فصل نطقها، فبراير الحزين، اثنين و عشرين حولا بالكامل لكل واحد من الأبناء …
” حتى ذاك المُش ديال عزيز عطاوه اثنين و عشرين عام؟ “… سألني الوالد و هو على مائدة الإفطار تدخّلت آسيّة متذكّرةً ذلك الصّباح الشتوي الذي حضرت خلالهُ لإخباره بنتيجة المُحاكمة …
– آيّيه ألواليد … اثنين و عشْرينْ عام .
وضع كأس قهوته … و في اللّحظة ذاتها علا الشّيب محيّاه و ظهرت تجاعيدٌ على قسمات وجهه، سترافقه فيما تبقّى من حياته .
كان اليوم يوم أربعاء و هو يوم عطلتي، تدخّل توفيق، و الذي دأبتُ خلاله على تحضير فطور الوالد … و العناية بالمنزل الأسري كذلك
يوم الأربعاء سيصير مرادفا لحزن العائلة …
أما الوالدة فقد كانت في القسم بمدرسة المعلمات هاته المرة .
بقي الوالد شاردا حتى بعد أن غَادَرت آسية و أسماء المنزل .
كنت أراقبه في ذهول فقد كان يكلّم نفسه و هو في غدوٍّ و رواح بين مرآب السيارة و مكتبه كأنه يبحث عـن شيء يجهله … حـيـن انتبه إلى وجودي قال :
توفيق … نتا كاين … نسيتك … خُّوتكْ … حكموا عليهم بعشرين عام … و عزيز … الزغبي حتّى هو … كي غا نڭولها لمّك …
لقد نسي تواجدي مَعَه … أنا الذي لم أفارقه طيلة الصباح …
واش وجدتي لغدا،
قرّبت نكمّل …
خصك تمشي معايا نجيبو مّْكْ من المدرسة … كان يبحث عن أنيس لأنّ الشّجاعةَ خانتْهُ حينها …
لم أستَوعب … أعدتُ الحساب 1996 = 1974+22 هل فعلا سيغيبان كلّ هاته المدّة … التّي بدَت لي هائلة … عندها سأكون بلغتُ الثالثة و الثلاثين … و عزيز … على مشارف الأربعين ؟؟؟ هو إجرام …
في اللحظة ذاتها دُقّ جرسُ الباب، لم ينتظر الزائر الإذن بالدخول بل دلف بجلبابه التقليدي و طربوشه الأحمر … و ضحكته المتميزة التي كانت … تهُدّ الجبال .
كان الحاج محمد المرّاكشي يعيش نفس المأساة، فمصطفى سنُّه من سنّ عزيز و عوقب عقاب عزيز، فصاروا إخوانا من حيث لا يدرون .
بوشعيب باكري رافق الحاج في زيارة المساندة تلك .
أخرجت قهقهات الحاج، الوالد، من حالة الذهول التي رافقتْه منذ تلقى الخبر، ابتسم … خصوصا حين أصر، الحاج، على مرافقته لموعده مع ثريا …
أثارتني مرافقة الحاج مفتاح للآسفي و أنا أغادرُ المؤسسة، استطردت ثريا، و بمجرد وصولي إلى مستوى نافذة السيارة الأمامية توجهت نحو الحاج بالسؤال :
صدرت الأحكام أليس كذلك؟ أهو مؤبد أم إعدام ؟ …
هي اثنين و عشرين سنة لكل واحد من أبنائنا … أجابني الحاجّ بتهكّم …
الحمدُ للّه إذن، و توجّهت نحو الآسفي الذي كانت حالةُ الانهيار واضحة على مُحيّاه قائلةً :” أراك منكسرا و حزينا أسّي الآسفي أنت الذي علّمتنا مواجهة الأهوال و النكبات برباطة جأش و قوة … سنسير في الطريق الذي رسمناه قبل ثلاثة عقود … يوم أول لقاء لقاء لنا بمكناس …
و أطلقت زغرودتك … الرائعة ياجدّتي … أليس كذلك؟ قاطعت سامية جدّتها فقد صارت متأكدة من ردود أفعالها في اللحظات الحرجة
فعلا بنيّتي … كذلك كان
زيّارة الحاج محمد المرّاكشي ” مفتاح ” أحالت على اللحظة كثيرا من المرح، صفق طويلا بكلتي يديه و ضاحكا بملء فيه كطبيعته … توجّه نحوي قائلا :
” تبارك الله عليك أ للاّ ثريا كنت أحسبه هو من يجيد مواجهة الأهوال و لكني الآن أكتشف سبب قوته و صلابته فوراءه سيدة بمثل جرأتك و شجاعتك و معنويات كهاته ستجعل عائلات المعتقلين يواجهون الآتي بما يلزم …”
و من ذاك الـيـوم، لـن يـفـتـرق الـرجال الحاج محمد مـفـتـاح و الآسفي … و محمد امديدش و سيظل المرّاكشي يشكر الإلاه، الذي مكنه من لقاء أصدقاء جمعتهم مقاومة المستعمر … و بعد أن فرقت بينهم السبل، هاهم الأبناء يجمعونهم مجددا أمام أبواب سجون المملكة … من أجل نفس الأهـداف و لا زالـت الـزّوجـات اللائـى صـرن أمّـهـات، بـنـفـس الحـمـاس و العزيمة مُستعدّات للنّضال لمواجهة المقبل من الأيام .
الوالدة ستكتم حزنها، تدخّل توفيق، و سترفض إظهار ما كان يعتمل في دواخلها من آلام جراء هاته المحنة، فأمامها مشوار طويل من الألم و الأمل و قوة العزيمة التي يلزمها جسد قوي لا يُهد .
بعد أن ركن الوالد للاستراحة، زوال ذاك اليوم البارد، كنت أراها، مُستغربًا، تضُمّ دَعامات البيت الباردة و أنينها الخافت، لا ينتبه له إلاّ من دنا منها و وضع أذنه على شفتيها .
تجرّأتُ و سألتها و قد تملّكني ذعرٌ على حالتها : ” ما بك يا والدتي تحضنين هاته الدعامات الباردة؟ …”
” لا عليك يا توفيق أشعر بألم غريب في دواخلي لا أعرف كنهه، هي حرارة قوية تنبعث من كبدي … كأني به يحترق، … و تساعدني برودة هاته الدعامات على التخفيف من هذا الألم … لا تنزعج سيزول بإذن الله.”
كانت تلك بداياتُك مع المرض اللّعين … يا والدتي و الذي ستحاربينه بضراوة نادرة و لن أنسى ترديدك للآية الكريمة كلما اشتد بك الألم :
” ربِّ إني مـسَّـنِيَ الـضُّـرُّ و أنـت أرحـم الـراحـمـيـن … صدق الله العظيم “.
عبد الرحمان اليوسفي والوديع الآسفي في ضيافة اتحاد كتاب المغرب
لم يمنع انشغال ثريّا بمهامّها الحزبية و النقابية، استطرد الآسفي، احترامها لـيـوم زيارة الـسـجـنـاء الذي صار مقدّسا مهما كـانت الظروف، خصوصاً و نحنُ ملتزمون بالتحضير لميلاد الذرع النقابي الجديد، فعرفتْ كيف تُوفّقُ بين اختياراتها السياسية و مساندتها للمعتقلين بدون استثناء، و حين كان يتعذّرُ على آسيّة مرافقتها، كانت حافلاتُ النّقل العمومي ملاذُها للوفاء بالعهد الذي قطعته على نفسها .
كانت ثريّا مُحرجة، و هي تستمعُ لتدخّل زوجها، و حين أرادت ثنيَهُ عن الاستمرار في ذاك الحديث، لم يأبه و استمرّ في حكيه :
و رغم أنّنا نتحدّثُ عن مسار الأُسرة فلن أترك الفرصة تمُرّ، و نحن في سنة 1978، دون الحديث عن ميلاد الكونفدرالية الديمقراطية للشغل و التي سيُنتَخب على رأسها الأموي العائد من تجربة الاختطاف و التّعذيب، و مع أنّ اقتراحات عدّةً كانت تُرَجّحُ كَفّة المُناضل العصاميّ أحمد البوزيدي لكن نكران ذاته و ذوات المناضلين من أمثاله جعلت مفتش التعليم في القيادة .
عايشتُ كل تلك الأسماء التي ساهَمَتْ بشبابها و مالها في بناء ذاك الصّرح غير هيّابة، رغم التضييق على الحريّات و الاعتقالات التي غيّبتْ مجموعةً من الـوجوه، الـتي اختطف بعـضها الـمـوت في ظروف إمَّا لـيست بـريـئة أو جراء مخلفات الاحتجازات، و كان بيتنا شاهدا على ذلك، فبه أُعلن عن تأسيس عدّة نقابات كوّنت العمود الفقري للكنفدراليّة .
كُـنـْت يا ثريّا، إبّان ذلك، قـد نُبت عـنّي في مُواكـبـَة نضالات الـمـعـتـقـلـيـن و عائلاتهم خصوصا و قد ترجموا تلك النّضالات بالإعلان عن إضرابهم الشّهير، عن الطّعام الذي استمرّ لمدة شهر و نصف، و ذلك من أجل الاعتراف لهم بحقّهم في استكمال دراستهم و مُعاملتهم بما يَليقُ و وضعهم كمُعتقلي رأي، و خلاله فقد المغرب مناضلة من عائلة وطنية رافقني أخوها عبد العزيز في الكوربيس … هي سعيدة المنبهي .
بالفعل يا والدي، تدخلّت آسية، فقد رافقنا نعشها إلى مثواه الأخير بمراكش رغم الحصار، أتذكر أن الفصل كان شتاء و السيّاقة صعبةً للغاية … اخترقتُ صفوف سيّارات الشرطة، و استطعت السّير خلف سيّارة حمل الأموات إلى أن أوصلنا نعشها إلى مثواه الأخير …
عدنا في نفس اليوم فالمضربون في حاجة لمؤازرتنا … و حافظنا على زياراتنا الأسبوعيّة لسجن القنيطرة و سجون أخرى عبر تراب الوطن…
” و لماذا السجون الأخرى ياعمتي؟ هل كنت مسؤولة عليها منذ ذلك التاريخ ؟” تساءل أسامة باستغراب
تساؤل معقول يا بنيّ، فبعد حُلّ الإضراب، استمر نضال العائلات من أجل تنفيذ ما اتُّفقَ عليه لتحسين وضعية المعتقلين و خصوصا السّماح لهم باستكمال دراستهم …، و استفادَةً من التّجربة، اهتدى صُنّاعُ القرار إلى توزيعهم على عدة سجون، و ذلك لجعل توحيد المواقف من الصّعوبة بمكان، فكان السجن الفلاحي عين علي و مومن نواحي سطات من نصيب صلاح و عزيز …”
” إذاً قرُبَت المسافة على ما أعتقد، فالقنيطرة أبعد بكثير مقارنة بمدينة سطات … أليس كذلك؟ ” تساءلت سامية فوالدها لا يترك الفرصة تمرّ دون تذكيرها و هم في سفرياتهم عبر أرجاء الوطن إلى مكان تواجد السّجون التي احتضنت الجدّ والأعمام .
فعلا يا سامية، أجابت آسية، و لكنّ هذا التّفريق صَعَّبَ من مهمّة العائلات التي تكلّفتْ بمُهمّة التّنسيق بين المعتقلين لاستمرار التّواصل بينهُم، و لهذا حافظنا على زياراتنا لهم عبر جميع سجون المملكة .
” و كيف لكم أن تزوروا مُعتقَلين لا تربطكم بهم أية علاقة عائلية؟” تساءل أسامة
” كنا معشر الأمّهات، تدخّلتْ ثريّا شارحة، نزوّج كَذبا، سامحنا الله، بناتنا بالمعتقلين أو بالشخصيات السياسية التي تودّ زيارة المُعتقلين، لأنّ الإفصاح عن هويّاتهم الحقيقية كانت قد تعرّضهم للمنع و التحقيق، فهذا رئيس منظّمة طلابّية قدّمتُه كأخ زوج آسيّة المُغترب، و ذاك وطنيّ عائدٌ من المنفى قدّمتُه كزوج لوفاء، و آخَرُ و كان محمدّ بنيحي أخ زوج وفاء كذلك.!!! ”
كان الجميع قد راح في ضحك المُنتشي، سامية رافعةً يديها إلى الأعلى تشير إلى جدّتها بشارة الانتصار، مزهُوّة بذكائها التي عرفت، من خلاله، كيف تراوغ الحُرّاس، و تسمح للعمّ بنسعيد آيت يدّر و بنيحي بزيارة مُعتقلي الوطن …
” و لماذا لم تستعملي، يا عمّتي، وضْعَك كنائبة لوكيل الملك لتسهيل هاته المأموريّات.”سأل أسامة بعفويّة …
ببساطة، يا ولدي، لأنّ قناعاتي لم تعد تسمح لي الاستمرار في عمل أحسست من خلاله أنّني سأصبح لا محالة مُنفَصمَة الشّخصيّة … فقدّمتُ استقالتي من سلك القضاء، و ولجت سلك المحاماة …
بقدر احتجاج عزيز و صلاح على قرار الإدارة تفريق المعتقلين، استمرت آسية، بقدر ما حبّذ صلاح اقتسام تجربة جديدة بسجن فـلاحي كـعـيـن علي و مومن فقد كان حالما بفضاء مفتوح يسمح له بالكتابة … و تربية الدّجاج كذلك … خصوصا و قد صار متمرسا بعد تجربة الوازيس الناجحة .
على طول الطريق الرابطة بين القنيطرة و سطات، استمرّت آسيّة، كان، صلاح، يسرد على أصدقائه، دون توقف، التفاصيل الدقيقة لعملية التّربيّة تلك، بدء من إطلالة أوّل فلّوس … و بروح نكتته المتميّزة، التي لم تنل منها كلّ الانكسارات، كان عزيز … يطالب أخاه بالاعتراف أمام رفاقه، أوّلا، بقصّة فرّوجه الذي باض …
” أراك تبتسمين، يا عمّتي، و أنت تعيدين سرد هاته التفاصيل رغم ما تبُثّه عيْناك الدّامعتان، لنا، من قساوة المرحلة … أكاد أجزمُ أنّك تعلمين تفاصيل تلك القصّة، فهلا حكيتها لنا ” ألحّت سامية …
” هي طريفة من الطرائف التي رافقت طفولتنا و أوقَعتْ صلاحا في مخالب شقاوتنا أنا و أسماء، ففي أحد المساءات أواخر الخمسينيات، كان الوالد حينها قائداً مُمْتازا على منطقة سيدي بنور، و عند عودته من العمل، طلب من صلاح، جلْبَ المشتريات التي كان قد اقتناها زوال نفس اليوم من بائع خُضَار و دواجن في سوق القرية .
كان، المُراهقُ، في أوج نشاطه و هـو يتكلّف بأولى مسؤولـياته الـعـائـلـيـّة، و على متن دراجته الهوائية راح لتنفيذ المأموريّة، و حين انتهى من ترتيب المشتريات و همّ بالعودة إلى المنزل، أهداه التاجر بيضة بلدية كانت إحدى دجاجاته قد باضتها للتوّ …
أخذ صلاح البيضة … و قفل عائدا …
عند وصوله استقبلناه أسماء و أنا، ساعدناه في ما حمل، أخَذتُ عنْهُ الدجَاجة و البيضَة التي صرّح صلاح علانية أنها باضتها و هو على الطريق …
عند تنظيف الوالدة للّدجاجة الشّهيرة، تحضيرا لطعام العشاء باركت،في استغراب منّا، الفرّوج المليح … و بصوت عال قالت :
تبارك الله، أ آسية، على هاذ الفروج اللي شرا بَّاك … رائع …
أ أنت متأكدة يا والدتي من أنه فرّوج ؟ و ليس دجاجة ؟
طبعا، و لماذا السؤال ؟
لا عليك يا والدتي … و ذهبتُ أبحثُ عن … المتهم … صلاح …
كان في حديقة المنزل حين سألته :
كيف وضعت الدّجاجة بيضتها، يا صلاح، و لم تنكسر و أنت على الدراجة … لم يعر اهتماما لما بَطَن من سؤالي و راح يتباهى في نجاحاته عندما استوقفته قائلة :
” لقد آن أوانُ شُهرتك، و وجب أن تنشر قصتك على صفحات الجرائد، فما وقع لك يستحق ذلك لأنّ الفرّوج الذي حمَلتَ لنا باض على الطّريق …”
و هل أنت متأكدة؟ سأل و علامات الهلع باديةٌ على مُحيّاه
و هل تريد أن نسأل الوالدة؟ … أجبْتُ بنبرة لا تخْلُومن هزل .
“عافاك … اكتمي سرّي، فقد أصرّ التاجر على إهدائي تلك البيضة، و قبلتُ … و على الطّريق تذكّرتُ حرص الوالد على رفض أيّة هدية مهما كان ثَمَنُها و خفت من ردة فعله …”
كتمت السر، طبعا، و لكني و إلى آخر يوم في حياتي ظللت أردد تلك الحكاية على مسامع صلاح كلما سنحت لنا الفرصة محذّرة من مغبة الخلط بين الدجاجة و الفروج الذي يبيض .
جدّي يرفض حتّى البيضة هديّةً يا عمّتي …؟ استغربت سامية
” حتّى البيضة يا بنيتي، تدخّل الجد شارحا، ففي البوادي،على الخصوص، و حتّى المُدُن، يَتَودَّدُ أصحابُ المصالح لأجهزة الأمن بأيّة طريقة كانت، طمعا في التقرّب من مراكز السُّلطة و قضاء أغراض شخصية بعيدا عن أي تطبيق للقوانين، و لهذا كنت صارما في هذا المجال، و أظنّ أنّ واجبنا و واجبكم كان و سيظَلُّ الدفاع عن تطبيق القوانين و محاربة كُلّ أشكال الفساد و رفض الهدايا … و لو كانت بيضة .”
صلاح سيصاب بإحباط كبير عند وصوله للسجن الفلاحي فقد منع القائمون عليه، المعتقلين السياسيين، من المشاركة في الأعمال الفلاحية أو تربية المواشي إمعانا في تعذيبهم و الحدّ من تحرّكاتهم .
أذكر جيدا، استطردت ثريا، بأنّ نضالاتنا كانت على كُلّ الواجهات، فبالإضافة إلى مواصلتنا مُؤازرة المُعتقلين، حلّ موعدُ الإضرابات التي خاضتها أسرة التعليم في ابريل من سنة 1979، و فيها استعملت السلطة العـصي و الهـراوات لثني رجال الـتـعـلـيـم عـن تـنـفـيـذ قـرار الإضراب، و وصلت وقاحة القيّاد و ممثلي وزارة الداخلية، حينها، إلى اقتحام حُرمة المدارس واستعمال الفلقة في حق الأساتذة المُضربين، على اختلاف مسؤولياتهم، في ساحات المدارس، و أمام تلامذتهم … و ذلك للحطّ من كرامتهم و إذلالهم . لكن التلاميذ كانوا في مستوى الحدث … آزروا بطريقتهم الخاصّة لأنّهم اعتبروا أنّ للمدرسة حرمتها و للأستاذ كرامته … و حافظوا على تلك الحُرمة من خلال إضرابات منتظمة، و كوّنوا دروعا لحماية الأساتذة، فكان الالتحام قويا و الردُّ في مُستوى الحدث …
في نفس الفترة حلّت فاطمة الأخت الصغرى لمحمد ڭرينة بمنزل الوازيس … كانت، مفجوعةً، تبكي أخاها بحرقة و تبثني أشجانها … فقد اختُطف الشّابُّ من داخل مؤسسته التعليمية و هو يخلّد ليوم الأرض … نفس السّنة … كنت أواسيها، و يدي على قلبي فحالة الشاب الصحية لن تحتمل قساوة الاختطاف .
لم تترك لنا السلطات فرصة كبيرة للبحث و أطلقت سراحه حين شعرت أنّ جسدهُ لم يعُد يحتمل . و استُشهد الشّابُّ يوم الرّابع و العشرين من نفس الشهر . و لم يكن قد أتمّ بعدُ عقده الثاني …
واش المغرب كان هاكَّا أعمتي؟ سألت سامية في استغراب … لقد تغيّرت عدّةُ أشياء … أرانا محظوظٌون مُقارنة بما … عشتموه
لا أظنّكم محظوظين، يا بنيتي، فعليكم مسؤوليات أعمق لأنّ لكل زمن مشاكله، متطلّباته و نوعيّةُ نضالاته … ففي زمانكم تغيرت الأهداف، وطُرُقُ مُناهضة التغيير و التّقدّم، و لهذا عليكم النضالُ من أجل الحفاظ على المكتسبات، و تعزيز بناء المغرب المتعدد الذي طالما حلمنا به .
لم يتغيّر أي شيء إذن يا جدّي، مُنذُ عَقدكُم لمؤتمركم الاستثنائي … فعمّي عُمَرُ اغتيل، ڭرينة استُشْهد و حالة الاستثناء مستمرّةٌ بعدم السّماح لكلّ المنفيين للعودة الى الوطن الأمّ؟ تساءل أسامة مستغرباً
نحن من تغيّر، يا بُني، ردّ الآسفي التزمنا بعد المؤتمر الاستثنائي بالعمل في إطار المشروعيّة و من داخل الأجهزة و رغم القمع الذي أدّى إلى الاعتقالات والاستشهادات التي تعلمون لم نزدد إلا إصرارا على المضي على نفس النهج حتّى نصل إلى المغرب الذي نصبو إليه، شاركنا في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي زُوّرت ضدا على إرادة النّاخبين، و مع ذلك كان هدفنا واضحا للجميع : التّغيير من داخل المؤسّسَات، و النضال من أجل إصلاحها … و الطّريق لـم يـكـن مفروشا لنا بالورود … و جعلنا شعارنا :
الإرهابُ لا يُرهبُنا، و القمعُ لا يُفنينا، و قافلةُ التّحرير تشقُّ طريقها بإصرار.
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…