‫الرئيسية‬ منوعات فسحة رمضان (23)
منوعات - 14 أبريل 2023

فسحة رمضان (23)

ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …

أعدها للنشر : منير الشرقي

توفيق الوديع

لحظة الإفراج عن الآسفي …وزنه لم يتجاوز 47 كلغ .. !!!

طبعا لم تستمر الحياة كما كانت عليه، و لكنّ الوالدة حرصت على عدم تغيير البرامج السنويّة، وهكذا وبعد استيعاب ما حدث، كان عليها الحرصُ على احترام تقليد تنظيم مكتبة البيت كما جرت عليه العادة إبّان العُطل المدرسيّة .
حدثينا عن هاته العادة يا عمتي …
حسنا ياسامية، تعلمين طبعا مكان تواجد مكتبة الوالد اليوم ؟
نعم، فهي وراء مكتبه الذي لا زال على حاله منذ رحيله ، حسب ما حكاه والدي، وفوقه لازالت موضوعةٌ تلك الورقة التي خَطّ عليها مقُولة شهِيرة لأديب فرَنسيّ :
” مستعـد للموت من أجل الـدفاع عن حقك في التعبير عن اختلافك في الـرأي …”
آمـن، جدّي، بمضمونها ودافع عـنه وكان يردِّدُها في جميع الـمـحافـل … و لكنّه ، مع الأسف، لم يضع عليها إسم قائلها
” هو فرانسوا ماري أرويه المعروف باسمه المُستعار” فولتير”، تدخَّل أسامة شارحا ، كاتب فرنسي عاش في عصر التنوير، وهو أيضًا فيلسوف ذاع صيته بسبب سخريته الفـلسفـية الظريفة ودفاعه عـن الحريات المدنية و خاصة حرية العقيدة .
كان فولتير كاتبًا غزير الإنتاج ، قام بكتابة أعمال في كل الأشكال الأدبية تـقـريـبًا؛ كـتب المسرحيات و نَظَم الشِّعْر وألّف روايات وصاغ مـقـالات وأعـمالا تاريخية .
كان مدافعًا صريحًا عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات الجزرية التي كان يتم تطبيقها على كل من سوّلت له نفسه أن يقوم بخرقها ولو بالكتابة، و يمكن اعتباره ممن برعوا في فن المجادلة والمناظرة الهجائية، فقد كان دائمًا ما يحسن استغلال أعماله لانتقاد دوغمائية الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسات الاجتماعية الفرنسية.
فولتير واحدٌ من الشخصيات البارزة في عصر التنوير إلى جانب كل من مونتسكيو وجان جاك روسو، حيث تركت أعماله وأفكاره بصمتها الواضحة عـلى أعمال مفكـرين تنتمي أفـكارهـم للثورة الأمريكية و الثورة الفرنسية …”
أحسنتما أحِبّتي، قالتها آسية تعبيرا عن فخرها بالمستوى الثّقافي للجيل الثاني من ذرِّيةِ ثريّا ومحمّد و استأنفت:
” تجب الإشارة إلى أنّ عدد الكُتُب التي كانت تحويها رفوفُ المكتبة، كان مضاعفا مقارنة مع عددها الحالي ، فرفوفها كانت تملأ طول وعرض الغرفة بالكامل ، لم تعد على ذلك الحال، لأن جدكما كان همُّه الأول تسهيل الولوج إلى الكتاب خصوصا بالنسبة للشباب والطلبة ، فقد كانت مكتبته ملاذا لكثيرهم إبان التحضير لأطروحات نيل شهاداتهم العليا ، وهكذا تعاقب على مكتبة البيت أدباء ومثقفون أصبحت لهم مكانة متميزة في الحقل الثقافي المغربي والعربي .
تدخّل العربي واضعا يده على سبّابته طالبا نقطة نظام من آسية، التي سمحت له بتدخل موجز :
” لم يكن الطلبة وحدهم المستفيدين من كرم الوالد، فالمكتبة كانت مفتوحة في وجه التلاميذ وحتّى الغرباء، وهنا لابُدّ من التذكير بواقعة سيصير صاحبها واحدا من أكثر زوار البيت ومكتبته ، ففي نهاية الستينات كُنْتُ مُرافِقَا للوالد وكان في طريقه إلى موعد مهم بشارع الفداء، و كان الوقت مساء، حين صدمت سيارةٌ فارهة، الأضواء الخلفيّة لسيّارتنا، ترجلنا ، وطلب الوالد من السائق الشاب تطبيق القانون بملئ محضر معاينة ودّي أو تعويضه جُزافيّا عن الأضرار .
لم يتقبل الشاب، الذي بدا واضحا أنه من عائلة ثريّة لا تهاب أحدا، طلب الوالد، فرفض المُقترحَيْن، وراح يبحث عن شرطي يشرح له موقعه الاجتماعي و تطاولنا عليه .
طبعا، كان رد الوالد واضحا وقد فطن لعملية الابتزاز، و طلب تطبيق القانون … فَهِم الشرطي أنهُ أمام معادلة صعبة، فحاول تقريب وجهات النظر بأن طلب من ميكانيكي من بين من تحلّق حولنا تقييم الخسائر، و لم تـكـن حيـنها تـتجـاوز 30 فرنك ( 300 درهما حاليا )، و بـعـد أخـذ و رد و تشبُّث الوالد بحقه رضخ الشاب على مضض و سلّم المبلغ …
التفت الوالد نحو من تحلقوا حوله بحدس المُدرّس، سأل أول شابّ، وقعت عليه عيناه، عن مستواه الدراسي و عمن يعيله …
“- الأولى ثانوي يا سيدي، أجاب التلميذ مستغربا، و والدتي هي من تعيلني فأنا يتيم الأب …”
إذن أعرب الجملة التّاليّة ” بفضل اجتهادي وتحصيلي سأستطيع بناء وطن متقدم ”
كان التلميذ نجيبا، و أعرب الجُملة دون خطأ …
سلم الوالد مبلغ التعويض للتلميذ، من أجل مُساعدته في دراسته، وأوصاه خيرا بأمه و بالدراسة …
بعينين دامعتين عانق الشاب الوالد أمام استغراب الجميع …”
…شكرا العربي على تذكيرنا بالواقعة، فهي من الأهمية بمكان، استطرد الآسفي، أما التلميذ فقد أصبح أستاذا جامعيا وبقي مواظبا على زيارة مكتبة البيت… !! وأما الـشاب الـثـريّ فـقـد التحق بتنظيمات حـزبنا بعد أن سأل عن هـويّـتي وانتمائي السيّاسي واقتنع بأهدافنا، و صار من المناضلين الأفذاذ المُساندين مادّيا و معنويّا .
لنعد يا سامية إلى المكتبة و ترتيبها إذن …
كان علينا ترتيب مكتبة البيت – تحكي آسيّة – مرتين في السنة في فصل الربيع ونهاية الصيف قبل الدخول المدرسي، لم نكن نفهم الغاية من إعادة هذا الترتيب و أمام إلحاحنا في السؤال كان تفسير الوالدة أن هناك حشرة تُسَمّى الأردة تحيل الكتب، إن أُهْمِلَت، إلى رماد … بالإضافة إلى أن عمليّة التّنظيف تُشَجّعُ على القراءة طبعاً .
كـانت المكتبة الخشبية تضم أعـدادا هـائلة من الكتب والمجلات والجـرائـد، و كانت العـملية تتم تحت إدارة الوالد والإشراف التقني للوالدة … يتم إخلاء الرفوف من جميع الكتب، و تجَمّعُ في باحة المنزل، و نقوم بمباشرة عملية مسح الكتب واحدا واحدا وترتيبها حسب النوع وتاريخ التّأليف … و النوع ليس هو الشعر أو النثر فحسب، بل فيه أنواع كذلك، فالشعر إماَّ جاهلي، أو شعر عصر النهضة، أو الشعر الحديث، الذي بدوره إمّا عمودي أو حُرٌّ، ولن تنتهي المعادلة بهاته السهولة ، فلكل عصر أشعارُهُ، غَزَلٌ، مديحٌ و هجاء كذلك، وما يسري على الشعر يسري على الأدب نقدا، رواية أو دراسات اجتماعية … كانت باحة المنزل تمتلئ بأكوام الكتب لعدّة أيام، و كنا ننام و نستيقظ بينها ، وعند صباح كل يوم ، كنا نتبارى في مناقشة الكتب التي نكون قد قرأناها مساء قبل النوم .
و في غفلة منا ونحن في نقاشاتنا اللا متناهية تكون الوالدة قد أعادت جل الكتب إلى رفوفها و لم يبق منها إلا الحجم الكبير والوازن …
كنتُم قد استعدتم، إذن، بعضا من حياتكم العادية ؟ فهل وصلتكم أخبار عن جدّي ؟ سألت سامية ..
بعد نهاية العطلة الربيعية، كان البحث عن مكان تواجد الآسفي مستمرا ، استطردت ثريا، اقتنعنا بعد عدة أسابيع أن الاختطاف سيطول لا محالة ، وأن الواجب يحتم الانتباه للأبناء ودراستهم، خصوصا والسنة الدراسية سنة اجتياز المرحلة الابتدائية بالنسبة لوفاء و توفيق، و الثانوية بالنسبة للبعض الآخر.
كـنتُ حينها أُدَرّس بمدرسة المنفلوطي المختلطة، توفيق ووفاء كـانا مرافقيّ ، وكانت سيّارات الشُرطة السرية لا تفارقنا عند الغدوّ و الرّواح، لإرهابنا وثنيي عن الاستمرار في التردّد على أبواب السّجون والمعتقلات بحثا عن جدّكُم ، وكذلك للقاءاتي المفترضة على الطّريق، بمناضلين في حالة فرار، و لهذا صرت بالنسبة لهم صيدا ثمينا ربما هداهم لضالتهم .
كانت سياراتهم لا تـفـارقـنا طـول المسافة الفاصلة بين المنـزل و المدرسة، و كانت تتعمد الزيادة من سرعتها كلما اقتربت منا رغبة في مزيد من التّرهيب .
كان اصطفافنا في مشينا أفقيا وفاء يمينا، أنا وسط الطّوار، و توفيق كان يصر على البقاء على يساري، و لأن الطوار لم يكن يسعنا نحن الثلاثة فقد كان يمشى على الاسفلت ما يجعلُ قامته تبدو أقصر ممّا هي عليه، و كلما مرّت السيارة المستفزة، كان يضغط على يدي ليُذكرني بأنه مرافقي القويّ، المستعد للدفاع عنا و حمايتنا .
كانت نظرته معبرة وأنا أتوجه إليه قائلة : هيّا بنا إلى الأمام … و لم أكن لأتم جملتي حتى يكون الطفل قد رفع يديه إلى الأعلى منتشيا متأكّداً من أن رسالته المشفرة قد و صلتني، و عند مرور السيّارة من أمامنا كان يهرول نحوها رافعا شارة النصر صائحا :
” فدائي .. فدائي .. فدائي … رمـز ثـورة عـلى الأعـادي “.
* * * * *
انتهت السنة الدراسية، حاز الصغار على الشهادة الإبتدائية والمراهقون استطاعوا اجتياز امتحاناتهم بنجاح، داحضين توجُّسي من إخفاق محتمل .
حلت عطلة الصيف ، وعادة السفـر لم تـكـن لتغيب بغياب الآسفي، وفي إطار روح التضامن ومؤازرة عائلات المختطفين، تكلف من نجا من الاعتقال بالمأمورية، و كان وديعة الطاهر المناضل المُلتزم هو من أخذ على عاتقه تسجيل الأبناء في المخيمات الصيفية، توفيق، وفاء وجمال بمخيم الجديدة ، أما العربي فقد احتضنه محمد الحيحي، الإسم الهرم الـذي كان من الـذيـن عـلموا أجيالا كـثـيـرة مبادئ حقـوق الانسان و الديموقراطية والتربية على المواطنة ، هو من مؤسسي لاميج L’AMEJ الجمعية التي اهتمت بتأطير الشباب وتوعيته، رجل حقوقي حد النخاع، ناضل حتى آخر حياته في جميع المجالات الحقوقيّة حين بدا له أن العمل السياسي ربما أعاق هوسه بحقوق الإنسان، ارتبط عائـلـيا بالمهـدي بنبركة عـبـر شقيقة المهدي الـذي أحـبّـها و اقترن بها … و كانت أيقونة زمانها … لم تنتم سياسيا .. ولكن بصمتها لا زالـت حاضرة من خلال أبنائها الـذين جابـوا معظم عـواصم العالم وحرصوا على تخليد مسارها ومسار والدهم كذلك ..
حل فصل الخريف والدخول المدرسي، و عاد الجميع إلى فصول الدراسة دون اغفال ترتيب المكتبة كما كانت العادة … و لا أثر للآسفي و رفاقه .
مع حلول الموسم الجديد، عادت استفزازات أجهزة الأمن مصرة على الترهيب و التهديد …كان الوقت مساء و الليل حالك حين رن جرس الباب … نظرتُ حول الأطفال و المراهقين المتحلقين حول المائدة، تحكي ثُريَّا، و كان خالد هو الأكبر ، تلقف الرسالة بذكاء، و بادر دون تردد لفتح الباب …
لحظات بعد ذلك عاد رنين جرس الباب بقوّة … فهمت رسالة خالد فقد عادوا وربّما يحاولون اعتقاله …
لم أعرف كيف قطعت المسافة من الغرفة إلى باب البيت، كل ما أذكر هو أنني ارتميت على خالد، وبقوة لم أعلم مصدرها خلَّصته من يَدَيْ من كان سيصير مختطفه …
– ” إنه قليل الأدب يا سيدتي، وجب أن تسهري على تعليمه مبادئ الوطنية فعند سُؤالنا عن الثانوية التي يدرس بها أجابنا بكل صفاقة : أدرس بثانوية عبد الله دون احترام لمكانة الأمير…!!!
تغاضيت عن الاستفزاز الواضح والمُبَيّت فالغرض كان إلقاء القبض على أي فرد من الأبناء لمقايضته بآخرين، و سألت :
– ماذا تريدون و عمَّ تبحثون ؟
عن صلاح وأسماء، أظنهم متواجدين داخل المنزل، أجاب الشاب بانفعال واضح و خالد كان قد أضحى داخل البيت بعيدا عنهم …
أجبته بهدوء :
صلاح غائب … لقد استقل بنفسه، وأسماء لا يمكنني تسليمها لكم في هذا الوقت المُتأخّر من اللّيل … و لو على جثتي .
حاول الشاب، الذي كان قد رفع يديه إلى الأعلى،الضغط علي مهددا بالتعنيف الجسدي، عندها فُتح باب السيارة السوداء وأطل رئيسهم قائلا :
تراجع يا هذا فأمامك سيدة متعلمة، و مقاومة كذلك ولزم معاملتها بما يليق.
لم يكن الرئيس الناهي إلا المتنبي، ذلك الضابط الذي كلفته أجهزة الأمن بمراقبة العائلة والذي كان قد تربى في أحضان المقاومين قبل الالتحاق بأجهزة الأمن السياسي مما جعله يحافظ على رصيد غير قليل من دروس الوطنية، التي جعلته يخجل من نفسه في كثير من الأحيان و يتراجع إلى الوراء .
صباح الفاتح من نونبر 1973 كان محمد الحيحي على باب منزلنا- تحكي ثُريّا- جاء ليخبرني بالإعدامات التي تمت فجر نفس اليوم، كان الرجل منكسرا، لم يكن ليتقبل الطريقة التي تمت بها تصفية مجموعة من المقاومين بتهمة المؤامرة … لم يكن مني إلا أن نبهته إلى أنّ طريقنا من أجل التغيير تشوبها هاته المؤامرات التي تسعى إلى إعاقة التحول الذي تريده القوات الشعبية ، وذكرته بأن الآسفي لازال، بعدُ، مختطفا وأنه ألح عند الاعتقال على اعتباره ميتا … و ربما هو كذلك !!
و أطلقت زغرودتك رغم الحصار والاعتقال ؟ سألت الحفيدة منبهرة .
بالفعل، بنيتي، لم أتردد ولو لحظة … أطلقتها قوية تحت أنظار الصديق الذي بكى من شدة الثأثر وعانقني مباركا ردّة فعلي … لقد كان شديد الحساسيّة ينبذ العُنف بكُلّ أشكاله .
خفّت حدة زيارات الأصدقاء، بتوالي الأحداث، خصوصا حين بلغت الاعتقالات مداها، إلا من أسمَاءَ آزرت و حافظت على العهد بعزيمة أقوى غير هيابة .. !!
عبد الحق السبتي حضر حين غاب الكثير، واظب على زيّاراته الأسبوعيّة، والاعتناء بالأطفال ولو بإحضار عُلَب الشكلاطة و السؤال عن الوضع المادي للعائلة وعن إمكانيات مساعدة عائلات المعتقلين، وكنت أرشده للمعوزين من العائلات لشد أزرهم في محـنـتهـم، وبنكران ذات كان يرفض التّصريح بمن يكون صاحب مبادرة المُساعدة .
استمرت الهدنة مع المراقبة المستمرة ، إلى حين إطلاق سراح الآسفي مع حلول رييع سنة 1974 .

الوديع الآسفي رفقة القائد عبد الرحيم بوعبيد والمجاهد بنسعيد آيت ايدر والمناضل الحبيب الشرقاوي

في الأسبوع الذي سبق إطلاق سراح الوالد- تدخّل العربي- دُقّ جرس الباب مساء وكان عليه شابّ نحيفٌ متوسط القامة، طلب الوالدة و دون أن أسأله عن هويته همس لي : ” أنا أبو فراس، صديق الوالد … و قد كنت معه …” ارتبكت فقد فاجأني هذا الواقف أمامي .
دخل أبو فراس ولم يكن قد تعدّ العقدين من عُمُره، كانت آثار الاعتقال واضحة على جسده ومحيّاه، انتَبَهْت إلى أن لباسه كان مهترئا وصندله ممزقا … تحلّقنا جميعاً حوله …
جلس أحمد و قال :
” جئت من المعتقل، كنت مع الأستاذ، أطلقوا سراحي صباح اليوم … لقد أوصاني بأن أخبركم أنه بخير … و وقف مُستعدّاً للرحيل …
إلى أين أنت ذاهب؟ إنْ كنت صديق الآسفي فسيكون قد اشترط عليك الإقامة في البيت الذي هو بيتك … و ما يسري فيه على الأبناء، يسري عليك …، تدخّلت الوالدةُ، و قد أصاب الجميع ذهولٌ من وقع المُفاجأة .
حالة الارتباك الذي ظهرت علينا جميعا، أضافت ثريّا، كانت بادية فقد صرت أشك في نفسي … و لكن حدسي كان يؤكد صدق أقوال الشّابّ الغريب، خصوصا حين أضاف : أنا صديقه رغم أنه كان يناديني في المعتقل ب” خوروطو و بالصلڭوط “.
إذاً فقد كان يقدّرُك … و يعتبرك من المناضلين الصّادقين …، أراك مُحتاجا إلى حمّام ” أجابت الوالدة و توجّهت نحونا
خذوا أحمد، إلى حمّام الحي، وعليكم الاعتناء به فهو أمانة عندنا .
كان مساء متميزا أخذنا خلالهُ، أبو فراس، في حكيه إلى الصباح عن دقائق حياة الآسفي في المعتقل …نُكته، طرائفه و معاناته .
و ما قصة هاته التسمية التي أطلقتها يا جدّي على الرّجل ؟ أكنت تَسُبُّ من تُعزّ ؟ سأل أسامة مستغربا:
و ماذا عن هاته الأوصاف والنعوت التي توزعها على أصدقائك و رفاق دربك ؟ سألت سامية كذلك
كما سبق و حكت جدتكم، كان المنزل لا يخلو من جميع الأطياف، و على رأسهم قادة وزعماء سياسيون، مقاومون وحتى أصدقاء اختاروا الابتعاد عن السياسة مع الاحتفاظ بصداقاتهم، و كان لازماً الاحتياط عند نقاشاتنا فكثيرة هي القرارات التي اتخذت بالبيت و الواجبُ كان يُحتّم الحفاظ على سريّتها إلى حين الإعلان عنها رسميا، و لهذا ابتكرتُ أوصافَ أعرّفُ من خلالها الحاضرين بعضهم ببعض، و خصوصا مسؤولي الحزب، و هكذا كُنتُ إن قدّمت الضيف ب” المناضل الذي يُقامُ لهُ و لا يُقعد ” فقد وجب الاحتياط منه وانتظار ذهـابـه قـبـل الاسـتـمـرار في أي نـقـاش و إن كـان ” خوروطو و صلڭوط “فهو مناضلٌ يُؤْمَن له …
كانت فكرة غاية في الذكاء توضح مدى احتياط المناضلين من أجهزة الشرطة التي كانت تحاول التحكم في جميع مصادر المعلومات، أضافت ثريا و استمرّت :
بعد أسبوع على زيارة أبو فراس … و أنا بالقسم أهُمّ باستئناف الدرس، بعد فترة الاستراحة، أطلّت آسية من نافذته، و بنقر خفيف، أشارت عليّ للالتحاق بها خارج الفصل … فقد امتَهَنَتِ التعليم و تعرف جيدا أن للقسم قواعد وجب احترامها .
” هيا بنا فإنهم يحضّرون لإطلاق سراح أفواج جديدة …”… خَرجْتُ بعد أن نظّمْتُ القسم . كانت تسبقني … هرْوَلْتُ وراءها، وعندما بلغت باب المدرسة اعترض سبيلي شيخ حَسبته متسوّلا، نهرته دون أن أحقق في ملامحه إلاّ أن جلابيته الفضفاضة و بلغته الصفراء الجديدة استوقفاني : فقد كنت قد طلبت من آسية الاحتفاظ بهما في درج مكتبها حتى يكونا في متناولها في حالة أي إفراج … و حتّى قبل أن أستوعب مجريات الأحداث خاطبني الشّيخُ قائلا :

أسية رفقة شقيقها العربي الوديع بمدينة كرونوبل الفرنسية

“ما بك يا ثريا، إلى هذا الحد بلغت قسوتكم علي، حتى أنت لم تعودي تميزين بيني و بين المتسولين …”
كانت معنوياته عـالـيّة جـدّاً وهـو يصر عـلى التنكيت عـلى طريقة لباسه قائلاً ” : مع هاد الجلابة و البلغة خصنا غي الكمنجة و غْريْبَة و نبداو ” … مُلمِّحاً إلى لباس الفرق التراثية التي امتهنت الطّرب الأندلسيّ …
ذُعرْت …غلبتني دموعي … فقد صار الرّجُلُ شبحاً …، وحين ضممته إلى صدري … أحسست بضلوعه … و بيديه النحيلتين تؤلماني … لم أقو على الكلام … تلعثمت … أُسقط ما في يدي … لم أستطع تحمّل قوّة اللّحظة … أما هو فقد كان صوته يجلجل المكان، لم تنل عذابات المُعتقل منه شيئا، كان يحكي عن تجربته الجديدة بـنـكـتة … لم يـتـغـيّـر … وحـده الجَسَدُ أنهـك … وحين كان ينتبه لما كان يعتريني من قسوة اللحظة، كان يحاول الرفع من معنوياتي، فيذكّرني بالحالات التي عاشها إبّان الاحتجاز، فهذا المناضل العبدي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة تحت التّعذيب، و تلك الشّابّة الأمازيغيّة التي وضعت وليدها بالكوربيس، و صوت مخاضها القويّ أدخل الرّهبة في نفس الجلاد، أمّا الأختان أزغار فقد أعطتا الدّليل على قوّة المناضلات المغربيّات و تفرّدهنّ، كانت تجربة أخرى اسمها الكوربيس .
أدْخَلْتُه حمّام البيت، استمرّت ثُريّا، و لم يكن يستطيع تحريك يديه لخلع ملابسه من طول مدّة ملازَمة القيدين لهُما … صار الجسد نحيفا ولم يعد وزنه يـتـعـدى 47 كـيـلـوغـراما، أما جـلـده فـقـد صار خشنا كجلـد تمساح … و حينما هممت بحكه أملا في إزالة الأوساخ التي أحالته كذلك، نزّ دما … توقفت … عندها فهمْتُ لماذا حلقوا شعره عن آخره حتّى صار أصلع …
حينها أحس أن أثر إعادة الحكي قويٌّ على ثريا والأبناء، و حتى الأحفاد، فمن عاش المرحلة بكى في صمت، أمّا الأحفاد فعلاماتُ الدّهشة كانت بادية على وجوههم، و لم يستطيعوا استيعاب قسوة تلك الأيّام،و بروح نكتة مُتميّزةً تدخل الآسفي قائلا : لم يحلقوا رؤوسنا إلا عندما تقرر إطلاقُ سراحنا، فقد تعمّدوا ترك شعر الرأس مسترسلا و متسخا لا يعرف للماء سبيلا، حتّى صار مرتعا للقمل الذي سمَن،و بلغ أحجاما، كنّا نتباهى بها بيننا، و نتبارى لقتله، و الفائز هو من يستطيع اغتيال أكبر عدد من تلك الحشرة التي رافقتنا في محنتنا … كانت معركتنا مثيرة خلال هذه المحنة … كان الخبز “الكارم” غذاءنا الأساسي، لذلك اهتدينا إلى طريقة لحفظه ، وذلك بتعليقه على الحائط حتى لا تصله الحشرات، و لأني كنت من كبار السنِّ، فقد تكلف الإخوان بي وبقملي و منهم الشّاب أبو فراس .
استطاع محمد بعد ذاك التدخّل لنقل جو الجلسة من الحزن المخيم على الجميع ، إلى جو مرح و ضحك …
كان الآسفي – تحكي ثريا – ، يستقبل المهنئين من مختلف ربوع البلاد،و هو في أوج نشاطه وكأنه عائد للتّو من جولة سياحية، يسأل عن عائلات المعتقلين وحالاتهم الاجتماعية في ظل غياب معيليهم و محدودية إمكانياتهم الماديّة .
لم يؤاخذ أحدا على عدم السّؤال عنهُ إبّان الاعتقال أو بعد إطلاق سراحه، … فقد كان يقدر كثيرا من عرف قدره ….. لكنه كان يردّدُ ” عندما يُعبّرُ لك أحدُهم عن محدوديّة إمكانيّات تحمُّله و يكون واضحا مع نفسه، يضمنُ لك اللي معاك و عْلا منْ تْعوّلْ “… و في هذا الصّدد لن أنسى تعامله مع صاحب الطاكسي الذي انسحب من الميدان السياسي بعد سلسلة الاعتقالات، و الذي أصر مع ذلك على تهنئته بعد الإفراج دون الظهور في الواجهة …
حين أبلغه توفيق، مستغرباً، أن على الباب سائق طاكسي يطلبه، فهم المراد و خـرج بـسـرعـة عـانـق الـرجل، و بصـوت عال شكره على سعة صدره و طول صبره، طول هاته المدة، على عدم أداء ما بذمته من ثمن الرحلة التي كان مدينا له بها … هي فرصة منحها للرجل لصلة الرحم دون توريطه في مالا تحمد عقباه، فالمراقبون على الباب باستمرار …

التعليقات على فسحة رمضان (23) مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

هشام الدكيك .. هناك أمور يجب تعديلها ونقاط قوة ينبغي استثمارها

أكد مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة، هشام الدكيك، الخميس بطشقند، عقب فوز أسود …