فسحة رمضان (21)
ذكريات عبرت .. فأرخت .. أنصفت و سامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر : منير الشرقي
توفيق الوديع
محنة الاختطاف سنة 1973 ..
اقترنت آسية بمناضل فذ ارتبط بالحركة الإتحادية، تدخّلت ثريا، فهو ابن شارع الفداء الذي نشأ به عدد من الشباب المتحمس للتغيير السلمي، رغـم ما كلّفتهم مواقـفهـم من اعـتـقـال ومتابعة وهم في ريعان شبابهم، و لم تزدهم تلك المضايقات إلا حماسا وإصرارا على المضي على نفس المسار.
كانت ظروف اقترانهما استثنائية كوضع البلاد والوطن العربي ككل، و لهذا اشترط جدُّكم، على الزوجين الحرص على عدم إظهار مباهج الحفل … و كانت الصورة الرسمية لحفل الزّفاف معبرة حيثُ يُستشفّ ذلك الاستثناء الذي صاحب الحدث .
حضرت العمّات، و الخالات للحفل، و حين تجرأت إحداهن على إطلاق زغرودة معبرة عن ابتهاجها لزفاف ابنة أخيها ، واجهها الآسفي محذرا و مهددا بطرد الجميع من المنزل ، مذكرا بأن الواجب يحتم احترام مشاعر عائلات المختطفين .
علاقتي بأم يوسف تحوّلت، في غفلة منّي، من علاقة أمّ ببنتها إلى صداقة حـمـيـمـيـّة … استـرسلت ثريا … أسَّسَتْ للتضامن العائـلي، و جعلت جميع الإخوة يستوعبون درس الانخراط في روح التضامن مع المحتاجين .
تربية آبائكم، يا صغاري، كانت مبنية على هاته المبادئ : العمل عـلى توعـية جميع الفئات الشعبية بدورها في الدفـاع عن حقـوقـهـا، و القيام بواجباتها … و تجسّدت بنكران الذوات و اقتسام الحاجيّات و المقرّرات الدّراسيّة مع من هم أقلّ إمكانيَّات من أقرانهم في القسم و في الأحياء المُجاورة كذلك .
في تلك السيارة الصغيرة كانت آسية تجمع إخوانها وأخواتها، في رحلات حول المدينة … وفي فصل الصيف تأخذهم إلى أقرب شاطئ للبحر، زناتة الصغرى أو الكبرى في أحسن الأحوال، و لصغر حجم السيارة وكثرة ” الرؤوس” فإن كانت تنظم رحلتين على الأقل في جميع الأحوال …
فـعـلا، تـدخـلت آسية، و هنا أتذكر أنه في مساء العاشر من يوليوز 1971، و في طريقي لأخذ الفوج الثاني، من البحر، انتبهتُ إلى المنبهات الصوتية لسيّارات الشرطة التي كان عددها كثيرا … و لم يكن الأمر عاديا … عند وصولي إلى مكان الموعد ، كان الإخوة المنتظرون يتساءلون عن سر الفوضى التي عمّت الشاطئ، فقد كانت قوَّات الأمن قد طلبت من المستحمين المغادرة فورا، و ما أثار انتباههم هو ردة فعل معلّم السباحة الأبكم الذي كان يطير فرحا رغم القلق الواضح على وجوه القوات المساعدة، التي عملت على إخلاء الشاطئ بسرعة فائقة .
” سيروا ڭولوا لمّكم تشعل الراديو …و سدُّوا عليكم الباب فالحدث بالغ الأهميّة و وجب تتبعه ” كان طلب السي عبد الرحمن السوسيُّ، بائع الحليب، غريبا ومفاجئاً لنا ، و كنّا لا نزال على الباب بملابس البحر فقد كنّا ضمن الفوج الأول العائد من الشاطئ، … و مما زاد من استغرابنا هو التفاته نحو خالد ابن الفقيه الفرقاني قائلا : ” ربّما حان وقت إطلاق سراح والدكم … هنيئا لكم … ” تدخّل توفيق و استمر ” . عند إخبارنا للوالدة، بالطلب الغريب لصديق العائلة، لم تفهم و لم تكثرث، و لكن لم تكد تمرّ إلا لحظات حتى سمعنا منبه سيارة الوالد، فقد وصل قبل موعده .
و من بابها كان يعيد نفس الطلب الغريب ” شعلي الراديو آثريا …”
فتحناه، استطردت ثريا، و كان المذيع يردد :
” الجيش .. أقول الجيش قد قام بانقلاب ضد النظام الملكي، و أقام نظاما جمهوريا مكانه … ”
الوديع الآسفي في اجتماع حزبي …
كان الآسفي قد أخذ مكانه بجانبي لاستيعاب الخبر الصّاعقة، أما الأبناء فقد فضلوا مذياع السيارة حيث تحلقوا حوله جميعا …
سَيَعدِمُ الجميع … حتما قالها، الآسفي، في إشارة إلى معتقلي محاكمة مراكش و أضاف … هي مؤامرةٌ أخرى من مُؤامرات أوفقير الذي يحاول من خلالها التكفير عن ضلوعه في اغتيال المهدي … و هذا لن نقبله أبدا … نحن نؤسس لمغرب ديموقراطي ومجتمع حداثي ولسنا ضد الملكية، نحن نجهر باختلافنا حول طريقة التدبير … !!
لم يكن جدّكم مقتنعا بالتغيير عن طريق العنف ولهذا فقد كان في أوج غضبه و احتجاجه على مثل تلك المحاولات غير محمودة العواقب.
فعلا، استطرد الآسفي، كنت على اقتناع تامّ بقوة النظام ، و لذا كان النضال السّلمي من أجل المغرب الديمقراطي المتعدد هو الحلّ، وعلينا وجَب السّهر على تجنيب البلاد متاهات الفوضى التي تنجم عن اختيارات التغيير العنيفة .
اقتناعي بمسؤوليّة الحاكمين في ردود أفعال عدد من الرّفاق و اختيارهم طرق تغيير مخالفة، أدّينا ثمنها تضامُنا، جعلني أكثر اقتناعا بالاستمرار في مؤازرة المعتقلين وعائلاتهم مدافعا عن حق الجميع في التعبيرعن رأيه محمّلا الدولة مسؤوليّاتها التاريخية عن تبعات تدبيرها للـمـرحلة وعـن أخطائهـا إزاء كـل الـوطنين الـذين اخـتـطـفـوا وعـذبـوا أو استشهدوا.
فشلت محاولة يوليوز 1971 و كان ما كان …
الوديع رفقة المناضل الحاج علي المانوزي
في الصيف الموالي، استمرّت ثريّا، طلب الأبناء الذين كانوا قد أشرفوا على سنواتهم العشرين، إن لم يكن بعضهم قد بلغها، السماح لهم بالتخييم على شاطئ سيدي بوزيد بالجديدة … بمعيّة بعض أصدقائهم … وصديقاتهم ، سمحنا لهم طبعا رغم توجّسنا من مثل تلك اللّقاءات، خصوصا والجو السياسي يعرف تصعيدا خطيرا … و كنت على يقين بأنّ اختيارات الأبناء وتوجّهاتهم سائرة على نفس نهج والدهم مع تغيير في طُرُق العمل ، والتي وضحت من خلال انتقاداتهم العقلانيّة للسيّاسة المُتّبعة من طرف الـمخـزن و لحزب القوّات الشّعبيّة الذي كانوا يعتبروه حزبا إصلاحيّا .
ربّما كان لقاؤهم اجتماعا تأسيسيا أو تأطيريّا … تساؤل ستجيبني عنه المقبل من الأيّام …
رغم قبولنا لطلبهم بالتخييم، ارتأينا القيام بزيارة تفقدية بعد أيام قليلة وكان ذلك يوم 16 غشت 1972، عيد ميلاد وفاء الذي اتخذناه ذريعة للزّيارة .
تفقدنا الأحوال ورغم تحفظ الآسفي على هذا التّخييم وتحذيره و إحساسي بانقباض تملكني، تركناهم وعدنا بعد قضاء يوم ممتع .
بمدينة البئر الجديد، توقفنا لإصلاح عطب أصاب السيارة، و بينما كنت أتصفّح بعض المجلات، باغتني جدّكم ، وكان وجهُهُ متجهّما ، و قال ” فعلها مرة أخرى يا ثريا و لم ينجح، و كان يقصد أوفقير والمحاولة الانقلابيّة الثانية، … إذن وجب على الملك استخلاص الدرس، فقد حذرناه من الملتفين حـوله دون جدوى، أورثهُم لنا المستعمر ولم يكونوا وطـنـيـيـن يوما …”
لم تكد تمضي تسعة أشهر على تلك المحاولة حتّى اندلعت أحداث مولاي بوعزة ربيع 1973 ، والتي خلّفت اختطاف المئات و إعدام العشرات من الاتحاديين، كان جدكم من بين من اختطف لأزيد من سنة .
” أنت مراقب آ الآسفي، خذ حذرك … هاجر إن أردت فأنا قادرة على تحمل الأعباء المنزليّة … و دراسة الأبناء … و أظن أن الاعتقال إن حصل هاته المرة سيكون قاسيا ” كنت صارمة وأنا أطلب منه الالتحاق بمن غادر الوطن من رفاقه ….
” أبدا يا ثريا، لن أرحل فقد عاهدتك وعاهدت نفسي على النضال من الداخل، لن أغير موقفي فأنت تعلمين أنني لن أتركك ، ولن أترك إخواني في الدّرب مهما كان الثمن … سأظل أقاوم حتى النهاية ” …
كنت معجبة بموقفه الذي كان جريئا … و مسؤولا بمعنى الكلمة …
” كان الأجدر بكم أن تسافروا ياجدّتي إبّان تلك العطلة الرّبيعيّة، فقد حدّثني والدي أن بّا الآسفي كان يحرص على جعل جزء من العطلة للتّرويح عن النفس و زيارة منطقة من مناطق البلاد” لاحظت سامية متسائلة …
فعلا بُنيّتي، و لكن أجهزة الشّرطة كانت متتبّعة لكلّ حركاتنا، وما كانت لتسمح لنا بالانطلاق في أيّة رحلة، و على كُلّ ، فالعطلة الربيعية كانت قد انطلقت وانطلق معها البرنامَجُ المُخصّصُ لكُلّ العُطل …
” برنامَجٌ للعُطل ؟… و ما هو هذا البرنامَج ؟ يا جدّتي :
كان من المعلوم عند جميع الأبناء أن فترة العُطل تنقسمُ إلى شطرين :
الشطر الأول يُخَصّصُ لعمليّتين صـارتـا ضـروريّـتـيـن ضـرورة الـمأكـل و المشرب :
– أوّلا : القيام ببعض أعمال الصيانة المنزلية، والتي تتمثل في إصلاح ما يكون قد أصاب غرف البيت من مخلفات أمطار الخير … وتنظيف ” بيت الخزين ” الذي كان عبارة عن مكان توضع فيه جميع الأجهزة و قطع الأثاث التي كان الاستغناء عنها ممكنا، و لكنّ الحنين إلى الاحتفاظ بها أقوى …
– ثانيّاً وهو الأهمّ : القيام بإعادة ترتيب مكتبة البيت .
أما الشّطر الثاني فقد كان مخصصا لرحلة ترفيهيّة لمنطقة من مناطق الوطن، و خلالها كان مُـبـرمـجاً زيارة عائلات المعتقلين و مساندتها مادّيـا و معنويّا، ففي كلّ جزء من أجزاء الوطن كانت هناك عائلات اعتقل مُعيلها أو فردٌ من أفرادها لأسباب سيّاسيّة، ولم يكن ممكنا المرور عبر مدشر من المداشر دون البحث عن عنوان مقر الحزب و زيارته طبعا و الوقوف على التنظيم الحزبي نجاحاته و اختلالاته .
كنّاَ في الشطر الأول من العطلة، إذن، حين اكتشف جدّكم غياب بعض الأدوات التي يستعملها للإصلاح، فطلب من جمال مرافقته لاقتنائها من أقرب عقاقيري في الحي .
لم أستغرب عودة جمال بسرعة، و ارتماءه في حضني و بنفَس متقطّع كان يردد : ” لقد عادوا يا والدتي، إنهم أربعة بنظارات و سيارة سوداء … في طريقنا استوقفتنا تلك السيارة التي رابطت بالحي لعدة أيام إنّهم … ينتظروننا هناك ”
ربّتْتُ على كتفه لتهدئته و همستُ :هذا منتظر يا ولدي، هيّا لنأخذ جلباب الوالد فحتما البرد سيكون قارسا حيث سيأخذونه ..
كنت قد افترشت زاوية في حديقة المنزل اخترتها لتحضير غذاء ربيعي كان سيكون جميلا … و لكنّ الزوّار كان لهم رأيٌ آخر …
عند وصولنا، إلى حيث اسـتـوقـفـوه، كانوا قـد وضـعـوا الأصفاد بين يديه، و أجلسوه على المقعد الخلفي لسيّارتهم … تأثرُ جمال كان واضحا رغم محاولته الامتناع عن إظهاره، خانته عيناه ودمعتا فالتفت نحوه الآسفي قائلا :
لك أن تفخر يا بني، فهاته طريقكم التي لا محيد عنها حتى تتحقق مطالبنا في مغرب متعدد، منفتح و ديموقراطي انتبهوا لبعضكم و لوالدتكم …”
كانت اللحظة مؤثرة، و كانت الفرقة المكلفة بالاعتقال في أوج الارتباك..
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…