فسحة رمضان 15
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
بقلم توفيق الوديع
رحـلـة الاسـتـقـلال الأولـى
محمد الوديع الآسفي في استقبال للمغفور له محمد الخامس مطلع الإستقلال بعد عودته من المنفى
شكرا لك سامية على حرصك اقتسام هاته الذكريات …
عاد الملك من منفاه، استمرّ الآسفي، بعد نضالات خلّدها التّاريخ واستشهاد عشرات المقاومين، وخُصّص له استقبال، نظّمه وسهر عليه الشهيد المهدي بنبركة … و كان استقبال الأبطال … طبعا استغلّ المناسبة عدد كبيرٌ من الوصوليين، الذين ظلوا متعاملين مع المستعمر متآمرين على شرعية النظام ، والتحقوا بالصفوف الأولى مهنئين بالعودة الميمونة، و قد سهّل لهم النافذون في السّلطة من بقايا المستعمر هاته المهمّة، بل ساعدوهم على الاحتفاظ بمراكزهم و بوّأوهم، بهاته الطريقة، مناصب حساسة في البلاد، و في مراكز القرار كذلك ” … و هم من حاربونا فيما بعد … “.
حرص الملك على استقبال جميع شرائح المجتمع و على رأسها العنصر النسوي الذي أبلى البلاء الحسن، وكـان السنـد الرئيسي لنا في نـضالاتـنـا، و هكذا نُظّم استقبال لنساء الحزب، و كانت جدّتكم من بين من رحب بهن الملك شاكرا لهن حسن صنيعهن … و لأنه تذكر جيّدا واقعة نفي الطلبة من القرويين بفاس إلى مكناس فقد كان دائم السؤال عنهم، و في هذا الإطار تمّ التحضير لاستقبالنا، و كنّا متشوّقين للقائه و شكره على الاهتمام الذي أبداه في عـز الأزمة، إلا أن الانتهازيين الـذيـن حدّدثُكم عـنهُم سابقا، حالوا دوننا و حاولوا إبعادنا بالتّجمهُر حوله، فما كان منّي إلا أن صرخت في حضرة الجميع :
” الآن و قد تحرر المغرب و عاد الملك إلى عرشه نعتبر أن مهمتنا الأساسية قد انتهت ولنا مسؤوليات جديدة وجب الحرص عليها، هو لكم خذوه يا من كنتم تهابون حتى ذكر إسمه في المحافل فبالأحرى الدفاع عن شرعية مُـلْـكـه… فـنحن قـوم لا نحتاج شكرا على واجب وطـني حـقـقـنـاه، و نحن معتزون به “.
ساد صمت رهيب لم أنتبه له في غمرة اندفاعي، فقد شد احتجاجي انتباه الملك فالتفت متسائلا :
من هو هذا الشاب المحتج ؟ …
إنه من طلبة جامع القرويين الذين نفتهم فرنسا إلى خارج فاس .
” زيد آسّي محمد، فأمثالك من وجب أن يتقدم الصفوف، أنتم مفخرة للوطن وعماده، بارك الله فيكم و سوف نلتقي لنُكمل المشوار معًا، أمامنا جهادٌ أكبر نعول على أمثالكم لإنجاحه ” و أشار عليّ بالتّقدّم حتّى صرتُ بجانبه … و كان أول لقاء لي به …
بعد تلك العودة، بدأت عمليّة إحصاء المُقاومين لتسليمهم بطائق اعتراف بما أسدوه للوطن، و اختلط الحابل بالنّابل ، فكُلّ من هبّ و دبّ صار يتمنّى الحصول على البطاقة لقضاء أغراض زائلة، و كان من الضروري وضعُ شروط كانت أحيانا مُجحفة، والاستعانةُ بشهود إثبات، و هكذا طلب منّي مُقاومٌ، قاسمني عذاب السّجن، أن أُرفق شهادتي بملفّه، و كان الاعتراف له بالصفة الوطنيّة عسيرا للغاية .
كان لقائي به بسجن لعلو سنة 1953 كمعتقل من الحق العام وهي صفة تُطلق، عامّة، على المجرمين أو من اعتقل لعدم احترامه القانون، كانت تهمته بسيطة فقد كان قد أخلّ بالأمن العام وهو مخمور، و لذلك عوقب بالسجن لمدة شهرين. عند لقائي به، اكتشف أن هناك نوعية من المواطنين تعتقل من أجل مبادئ الحرية و الانعتاق وضد وجود المستعمر و أذنابه … حاولت تبسيط شرح أهدافنا و مرامينا ، ولكنه توقّف طالبا شرح المقصود ب” الأذناب ” فلم يكن مني إلا أن بسّطتُ الشّرحَ قائلا : ” الأذناب هم البرڭاﯖـة و عملاء الاستعمار ” …
عند نهاية مدّة حبسه، و لأنه كان تاجرا و ميسورا فقد تفقد جميع عائلات المعتقلين …، ربط الاتصال بينهم وذويهم، و كان المزوّد الرسمي لكل سجون المملكة ، وحين رتّب جميع أموره أقدم على اغتيال شيخ ومقدم كان لهما باع كبيـر في الـوشاية بمقاومين كان جزاؤهم الاعـتـقـال و الإعـدام … و سلّم نفسه و عاد إلى السجن و نحن بعد فيه
“… آش ظهر ليك آسي محمد قضيت عليهم … ” أخبرني وهو مزهوّ بعمله!!!
ارتأيت أنه من واجبي، بعد أن فُتح باب طلبات صفة مُقاوم، أن أدافع عن أحقيته تلك الصفة خصوصا و أنه لم يكن يطمح بذلك إلى ربح مادي بل كان اعترافا معنويّا فحسب .
رافقتُهُ كشاهد عند المسؤول عن البتّ في ملفّات تسليم البطائق، وكان قاضيا، استهل كلامه بتعريف مفاده أن الجرائم التي وقعت إبان نفي الملك هي التي تحسب للمقاومة … أما قبل النّفي وبعدهُ فلا مُبَرّر يُجيز منح الصفة .
لم أقو على النّظر إلى صاحبي، فأنا أعلمُ جيّدا أنّهُ قام بفعله ، والملك لم يُرحّل بعد، فهو يُعتبرُ إذن، حسب القاضي،معتقل حقّ عامّ … بعد لحظات صمت و ذهول، تدخل صاحبي قائلا :
” سعادة القاضي، قبل نفي محمد الخامس أي منصب كنتم تديرون ؟
– منصب قاض … لماذا ؟
– و إبان نفي محمد الخامس أي منصب صرتم تديرون ؟
– منصب قاض … كذلك … لماذا ؟
– و بعد رجوع الملك محمد الخامس أي منصب أصبحتم تديرون؟
– منصب قاض … كذلك .. لماذا كلّ هاته الأسئلة يا سيدي ؟
أجاب بحدّة :
– وجدتم جميع المبررات للاحتفاظ بمنصبكم كقاض قبل، إبان نفي الملك وحتّى بعد رجوعه، و لم تستطيعوا إيجاد مبرر واحد لمنحي صفة مقاوم …أنا الذي ضحيت بعائلتي و مُستقبلي وأنا أغـتـال عـمـيـلا للـمـسـتـعـمــر و مخبرا كان سببا في اعتقال و إعدام مجموعة من المقاومين …؟
لـم يستطع القاضي إكـمال الجلسة، فـقـد كـان ” الـمـُقـاوم “، أكـثـر إقـنـاعـا ووضوحا .
في خضم الاحتفالات المذكورة، وصلتني أخبار مقلقة عن والدي الحاج العربي، فمرضه استفحل بسرعة حتى أنه نُقل إلى المستشفى ورحل عنا قبل أن أصله لإلقاء النظرة الأخيرة .
كنتُ حزينا لفراقه، فظروفي حالت دون اقتسام لحظات كثيرة معه، هو الذي كان يقدرني و يعتز ببنوتي في كلّ المحافل و كان مؤازرا لمساري السياسي ومُحترما لإختياراتي .
كنا إخوة كُثْر، لتعدد زوجاته ، ولهذا قررت عدم الغوص في مسائل الإرث أو الاستفادة منها، فقد اعتبرتُ دائما، أن على الأبناء الاعتماد على أنفسهم بدل انتظار رحيل أحد الآباء طمعا في إرث زائل، و لهذا أعدت السيارة التي كان قد وضعها الوالد تحت تصرفي، للورثة، و عدت للتو من حيث أتيت .
آسفي.. المدينة التي احتضنت طفولة محمد الوديع الآسفي
هنا تدخلت ثريا قائلة :
” رغم تعدد زوجاته، وصغر سني، والمدة القليلة التي تعرفت فيها عليه، فقد كان الحاج العربي بمثابة الأب وأكثر، كان الساهر على راحتي وأنا ألد البنت البكر، آسية بمستشفى المدينة بآسفي ، و أصر على إقامة عقيقة في مستـوى حـدث اسـتـقـبـال الحفيدة الأولى، وكـانـت عـنايته بي وبـعـائـلـتي و خصوصا والدتي خاصة جدا . فقد كان بدويّا، كيّسا و رقيقا، تقاسم معي دقائق الأمور، و حرص على استشارتي في عديد من القرارات التي كان يجدُ حرجا في نقاشها مع جدّكم، كان لبيبا و طيبا رحمه الله .”
علاقتي بآسفي، استطرد محمد، تغيرت بوفاة الوالد فقد تحولت من علاقة بمسقط الرأس، إلى علاقة بمنطقة وجب الحرص على تقوية التنظيمات الحزبية بها، و لم يكن من سند لي بها إلا مناضلون يحسب لهم ألف حساب، لن أذكر أسماءهم جميعا ، و لكن وجب التذكير بأن الحاج محمد الشعـبي لـعـب دورا كـبـيـرا محليا و وطـنـيـا في الـدفـاع عن الـمـؤسـسـات و الثوابت الوطنية، محمد المرابطين، المتوكل، الفلاحي، جغادة و أخي امْحمد…
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…