نعيمة سميح بحة الجنوب (*)
بقلم: لحسن العسبي
هناك دوما مسافة بين الغناء والشدو. وإذا كان بإمكان الكثيرين الغناء، فإن الشدو لا يكون إلا للقلة منهم. لأن الشدو معنى وجود، وليس مهنة. نعم، لا يمكن للطرب أن يتحقق بدون خامة صوتية ومخارج حروف قوية وطبقات أداء منضودة، لكن الصوت وحده لا يكفي بدون توفر الإحساس. أي تلك التوليفة من الشجن، التي تجعل الصوت نوعا من النداء أمام يتم العالم وخواء الوجود. بالتالي، فالذي يشدو، إنما يغني لنفسه ومن أجلها، وليس من أجل الآخرين.
علينا أن لا ننسى، أن الطائر حين يشدو فهو يمارس طقس وجود وليس دورا ينتظره منه الآخرون. فالشدو عملية ذاتية محضة، يلوي من خلالها لسان الطائر الهواء كي يعزف على موجاته أثرا يحقق له الرضى.
أما كيف نتفاعل نحن مع ذلك الشدو، فهو أمر لا يعيره الشادي أي اهتمام. فالآخر المستمتع هو الذي يعلي، في نهاية المطاف، من قيمة الطائر ويمنحه ترتيبا بين صف الطيور المغردة. وليس هديل الحمام كنعيق الغربان.
إننا حين نتأمل ريبرتوار فن الغناء المغربي في مساره الطويل، سنجد أنه تاريخيا قد توزع بين تراث الغناء المديني (التجاري والحرفي والمخزني) وتراث الغناء القروي (الفلاحي). وأنه ثقافيا قد توزع بين الأندلسي واليهودي والأمازيغي والحساني الصحراوي والجبلي والعروبي. مع ميزة تتمثل في أنه على قدر ما كان تراث غناء المدن كتطوان، طنجة، مكناس، فاس، مراكش، الصويرة، سلا، وجدة والرباط، غناء جماعيا، فإن من نقط الإختلاف ضمنه تكمن في التوزع بين طرب الطبقات التجارية الغنية (الموسيقى الأندلسية والموسيقى الغرناطية)، وبين طرب الطبقات الحرفية الشعبية (موسيقى الملحون). بينما ظل الغناء القروي الفلاحي بكافة أشكاله الأمازيغية، الصحراوية الحسانية، العروبي، الجبلي، غناء فرديا، حيث يكون المغني/ المغنية نجما ضمن فضاء تواصلي له حدود جغرافية يحدها مدى ما وصله الصوت (والشهرة).
ولن يقع التحول تاريخيا، سوى في مطلع القرن العشرين، مع تطور تكنولوجيا التسجيلات واكتشاف المذياع. من حينها وقع انقلاب في شكل التفاعل مع كل المنظومة الغنائية بالعالم، ومن ضمنها المغرب.
تأسيسا على ذلك، فإنه حين نتأمل ريبرتوار فن الغناء المغربي، ما بعد تملك تكنولوجيا التسجيلات، سنجد أن الأسماء التي رسخت بصمة فنية (بمعنى قوة الشدو وليس وظيفة الغناء) كثر، بفضل تعدد أشكال التعبير الغنائي بتعدد الروافد الثقافية لتلك التعبيرات الفنية، الموزعة بين العروبي (العيوط بأنواعها من الحصباوي والمرساوي والجبلي وغيرها)، والأمازيغي (الروايس وإمديازن وغيرهما)، والصحراوي الحساني (أهل الكاف بتشديد الكاف).
وبحكم تطور البنية المجتمعية للمغاربة كإنسية حضارية، ما بعد صدمة الإستعمار، فإن بروز منظومة جديدة للمدينة (والحداثة المدينية)، قد أفرز تعديلا ضمن أشكال التعبير الغنائية سيوسم ب “الأغنية العصرية” (حتى وإن كان هذا التوصيف غير دقيق معرفيا وثقافيا)، يتأسس على فكرة الدمج بين مجموعة موسيقية ومؤدي/ مغني/ مطرب فرد. وأهم ما حققه ذلك التحول، هو بروز “المغني العلم” (أفضل من توصيف “المغني النجم”)، الذي يشار له بالبنان عموميا، ويصبح مثلا يقلد أو يطلب أداؤه وتعبيره الصوتي وشدوه.
ضمن هذه الخلفية، حين نتأمل كل ريبرتوار الغناء المغربي المديني الحديث، ما بعد صدمة الإستعمار، وتطور ممكنات الإنتشار التكنولوجية والتواصلية (إذاعة وتلفزة)، سنجد أن المعنى الذي خلقته مطربة مغربية إسمها نعيمة سميح، منذ سنة 1970، معنى فريد، لا نظائر له.
وهو المعنى الذي جعلها مرجعا خاصا ببصمة خاصة. ولعل من عناصر قوتها، أنها ظلت دوما مغربية أداء وسلما موسيقيا ومقاما (من الإقامة)، وأنها لم تهاجر قط إلى المشرق، بل المشرق الذي شد الرحال إليها. فهي لم تحتج أبدا، بفضل قوة بصمتها تلك أن تسافر إلى القاهرة (كمثال) لتنال الرضى والقبول والإنتشار، بل إنها فرضت قيمتها الفنية من داخل تربتها المغربية الخالصة. وها هنا واحد من أكبر نقط تميزها ضمن جيلها.
ربما، لا تدرك السيدة نعيمة سميح قوة منجزها الفني هذا، ليس لعدم معرفة فنية، بل لعدم اهتمام أصلا بذلك من قبلها، لأن ما ظل يحركها دوما هو “قيمة الشدو” لا “واجب الغناء”.
ويبرز ذلك بشكل جلي من خلال نوعية الأغاني التي اختارت أن تشكل عناوينها الفنية الخاصة. ذلك أن صاحبة أغاني: “شكون يعمر الدار / واخا بعيد / البحارة / أحلى صورة / ياك آجرحي / الله يا سيدي / على غفلة وما قريت حسابو / يا حبابي هذا حالي / غاب عليا لهلال “،، حين كانت تصدر على الناس بجديدها الفني كانت تصدر عن إحساس “الشدو الحزين للخسران”، الذي هو عنوان للفقد، يترجم ألما نازلا في الروح.
فنعيمة سميح ظلت دوما صوتا حزينا أمام الحياة، لأن قصة حياتها هي متوالية من المقاومة من أجل فرض الذات ضمن محيط لم يكن دوما رحيما بطراوة روحها (بها دوما ملامح طفولة بلا ضفاف). هي التي فتحت عينها ضمن واحد من أهم أحياء مدينة عمالية وليدة في الخمسينات بالمغرب مثل الدار البيضاء هو حي درب السلطان. الحي الذي كان مشتلا تربويا لثقافة سلوكية جديدة بالمغرب حينذاك. وإن كان تفصيل القول في هذا الأمر يتطلب مساحات كتابة أوسع وأكبر، لا تسمح بها هذه الأسطر هنا، فإنه يمكن لفت الإنتباه، إلى أن درب السلطان شكل في المرحلة ما بين 1920 و 1980، نقطة تلاق بين ثقافات متعددة شكلت روافد لشرائح اجتماعية متنوعة ومتعايشة ضمن ذات الفضاء السكني والإجتماعي.
فدرب السلطان هو تركيب مجالي عمراني موزع بين “درب كريكوان” الفقير و”درب الأحباس” الغني (الذي يضم القصر الملكي ودرب سيدنا والمشور)، ثم “درب بوشنتوف” العمالي (الذي ولدت وكبرت فيه نعيمة سميح) وأحياء “السراغنة” و”سيدي معروف” و”درب الكبير” الحرفية.
لقد كان ذلك النسيج الإجتماعي موزعا بين أصول ثقافية متعددة (ذوي الأصول المدينية التجارية، وذوي الأصول القروية الفلاحية) وتعدد لغوي (العرب والأمازيغ والفرنسيون والإسبان والإيطاليون) وتعدد ديني (المسلمون واليهود والمسيحيون). دون إغفال أن “حي درب السلطان”، قد شكل صلة وصل بين شمال المدينة وجنوبها، بين شرقها وغربها. وأن التعدد الإجتماعي ذاك، قد منح لأبنائه الإحتكاك مع مرجعيات وثقافات محلية وأجنبية مختلفة، وأنها في شقها المغربي مختلفة الأصول والفروع والمجالات الجغرافية (جبلية، صحراوية، سهلية)، وكذا تعابير فنية ولغوية متنوعة.
بالتالي، لقد خرجت نعيمة سميح، إلى ممارسة الحياة من قلب حي بوشنتوف العمالي، وهو ذات الحي الذي خرج منه شبيهها في سمو الشدو الغنائي محمد الحياني، مثلما خرجت منه سيدتا المسرح المغربي ثريا جبران ونعيمة المشرقي. فهي إذن تربة جديدة، مدينية مغربية، تلك التي أطرتها سلوكيا، ومنحتها أن تقاوم لتقول صوتها فنيا (رغم معارضة العائلة). وأن تقول ذلك ببحة صوت متميزة صاعدة من تربة الجنوب الأمازيغية، في تلك الأعالي التي تموت قمم أطلسها الكبير عند شط المحيط الأطلسي ما بين مدينتي الصويرة وأكادير.
إننا حين نغمض العين وننصت بصوت الدواخل لشدو نعيمة سميح، نكون أسرى “بحة خالصة من الجنوب”، حزينة دوما، منادية بأمل مرتجى. وحين يتسلل أنين ذلك الصوت الرخيم القوي، الصافي صفاء ماء ثلج الجبال، إلى أسماع الناس بالمغرب والمغارب وباقي بلاد العرب، يقع الحنين على صنوه، تماما مثلما يقع الحافر على الحافر في طريق الحياة. فيقع التماهي ويتحقق الرضى.
نعيمة سميحة، حين غنت “جرحها”، حين شدت، إنما غنت باسم جيل كامل قاوم من أجل محاولة عيش. ولقد غنت حالات إنسانية في المعنى الشامل للكلمة.
ولأنها كانت تشدو، فقد نجحت في أن تعدي جماليا ملايين الأنفس المغربية والمغاربية المتعطشة إلى الصوت الذي يشبهها. وتلك قوتها الفنية وذلك عنوان خلود أغانيها أثرا باقيا عنها، بصمة أنها كانت، لاتزال، وستبقى بيننا سيدة للطرب المغربي الأصيل إسمها نعيمة سميح، المطربة الوحيدة من مجموع جيل “الأغنية العصرية” المغربية التي غنت أيضا عن فلسطين ونضال شعبها من أجل حريته.
(*) شهادة من كتاب أعده سفارة المملكة المغربية بتونس
إيقاف شخص بأكادير لتورطه في الاتجار في الحشيش وترويج الكحول
تمكنت عناصر فرقة محاربة العصابات التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة أكادير، أ…