‫الرئيسية‬ منوعات فلاش باك مشاهدات ذ. الرحيبي: عام الجراد
فلاش باك - 30 مايو 2020

مشاهدات ذ. الرحيبي: عام الجراد

 

بقلم: ذ. حسن الرحيبي
كنّا لا زلنا صغاراً نلعب فوق أغصان شجرة “عنب الذّيب” وارفة الظلّ، بعرصة مسجد دوار الصديگات العتيق ذات مساء ربيعي من مساءات سنة 1959 الرّائعة.
 في غفلة من الطّالب الشّلح السّحّار غريب الأطوار . لما اشتدّ الحرّ، بشكل غير معتاد في شهر مارس معتدل الحرارة، ورائع الحقول والرّوابي، لتسود ظلمة غير مُعتادة وقت العصر.
وفجأةً تظهر جحافل من الجراد الإفريقي الرّحّال les criquets pèlerins القادمة من ناحية الجنوب فتغمر الحقول الخضراء الجميلة، وتكتسح الرّبى المترامية على لمح البصَر، وتحوّلها إلى بساط متحرّك تتقافز داخله حشرات لا يمكن إحصاء عددها.
وقد اختلفت ألوانها وأحجامها.. بعضها يركب ظهور البعض الآخر في حركة تزاوج عاجلة وسريعة توحي بأن ليس لها الوقت الكافي كي تلتهم نباتاتنا الجميلة والمفيدة، وتتزاوج وتتكاثر في نفس الوقت. لتخرج منها حشرات تزحف بدون أجنحة سماها الأهالي : “مْرَدْ”  لأنها تأتي على الأخضر واليابس رغم صغر حجمها، وزحفها فوق الحصائد كدبابّات عسكرية صغيرة يقودها جنود “ياجوج وماجوج” الأسطوريين في الاعتقاد الديني.
ومن هنا اسم “مرْدَة” و”لمرود” لنوع من القوات المغربية الباسلة، التي لا تُبقي ولا تذر على كل ما يصادف مرورها في الشوارع والأسواق.. !
هرعنا مُسرعين غير مُبالين بأعراف وقوانين الطالب الشلح وصرامته غير المسبوقة، وسجنه لنا في “الزّمهرير” وهو مكان مغلق تُغسل فيه جُثث الموتى.. يحاصرنا بأدوات الغسل والرفع والدّفن يحشرنا فيه ويُشعل مختلف أنواع الأعشاب الخضراء  في غفلة من الآباء، ليعرّضنا لدخان أزرق خانق، تسيل من حُرقته الشديدة دموعنا بغزارة، وتختنق أنفاسنا إلى درجة الإشراف على الموت اختناقاً.. !
عرفتُ فيما بعد أنه كان يفعل ذلك تقرّباً من الشياطين كي تدلّه على خزائن وكنوز مدينة الغربية التاريخية المهدمة منذ زمن بعيد، والتي سكنها اليهود بكثرة في الماضي، وأطلال”سَوْر موسى بن مشعل” اليهودي الثري على مرتفع بالقرب من دوار الطالوع.. !
هو السّاحر السّوسي الذي لم يكن يهمّه تدريسنا بقدر ما كان يهمه إشباع رغبته الجارفة في الحصول على أموال وحلي كنوز اليهود البائدين، بالتّربّص بالأطفال الزّوهريين بعلامات خاصة في الكفّ والعين، باعتبارهم اولاد الجنّ وليس الإنس… مما جعلهم يتوفرون على قدرات خارقة لكشف المستور وبواطن الأمور.
كما كان يفعل مع المرحوم سي محمد ولد الشايظمي، حين يجنّ اللّيل فليلتحق بأطلال مدينة مشترايا الموحشة..!
التحقنا بأهالي الدوار لنجد الجميع أطفالاً ونساءً ورجالاً يحملون أواني وقدوراً طينية كبيرة الحجم وقد ملأوها جراداً احمرّت بطونه وتزركشت ظهوره وأجنحته بألوان زاهية.. لكنه يُخفي وراء جماله الأخّاذ والرّائع نفساً شهوانية كاسحة لا تترك شيئاً إلّا وقد التهمته.. مثل أفعى فائقة جمال المظهر لكنها تُخفي وراء جَمالها الفتّان سُمّاً زُعافاً سريع المفعول..!
لأوّل مرّة أتعرّف على الأطرش ولد خديجة القنّوفية بكلامه المتثاقل والبطيء : تّانشّ تاتّا الجّراد عانتشْ نْتَشّ ! مشيراً بأصابعه القوية الخشنة لطريقته في القفز والتحرك..!
رغم محاولات طرده اليائسة وحشره داخل الأواني والقدور، وخرق بطونه بقضبان حديدية شديدة الحدّة ..  لم يزدد عدده سوى تكاثر . وانتشاره سوى استفحال وشراسة.. !
أخذنا حصّتنا من منتوج طبيعي لا دخل فيه ليد الإنسان.. أحسستُ لأول مرّة بحلاوة ولذّة اقتناء أشياء ظاهرها شرّ وباطنها خير عميم . لم نواجه فيه شرّ عين الحاسدين ولا مضايقة تنافس المتنافسين.. لأن في جمعه إنقاذاً للزرع، وأيضاً إنقاذاً ومَلأ لبطون جائعة ستوفّر على الآباء أسابيع من اقتصاد مُؤن شحيحة ونادرة الوجود بسبب توالي سنوات من الضنك والجفاف، بتناول حشرات شديدة اللّذة.. زاد من نكهتها الساحرة ملوحة لا يمكن العثور على مثيلها إلّا في جراد البحر وبوزروگ شاطئ سيدي كرّام الضيف الجميل..
كان ختامه مسكاً “عام روَيْزة” حين وزّع علينا المغفور له محمد الخامس عدة أكياس من شعير الميركان على إثر زيارة الرّئيس إيزنهاور الذي حطّت طائرته لأول مرة في مطار النواصر المهيأ على عجَل يوم الثلاثاء 22 دجنبر سنة 1959، والتي ارتبطت بنكبة اثنين الغربية حين مات عدد من رجالها الأشاوس كانوا يشدون الرحال لاستقباله، في حادثة سير أليمة بالقرب من سانية برگيگ..
لا زالت مأساتها التراجيدية تحلق في أجواء سماء الفقرا والصديگات حين مددوا جثثاً على قارعة الطريق في ليل دامس بهيم لا تسمع فيه سوى أصوات ضفادع صاخبة في ضاية الرحبي والقاق.. وصوت بوم حزين يمزق سكون الليل.. انضاف إليه نحيب نساء طاعنات في السن إحداهن تنتحب بصوت رخيم يمزق الجوارح ويدمي القلب: وراه حتى سي عثمان مات.. !
تخيلته فارساً متزعما للقبيلة.. ! وهكذا كان.. ظلت صورته المتخيلة مرسومة في شعوري ومنطبعةً برسوخ في ذاكرتي إلى اليوم.
كان من بينهم أيضاً اولاد الفقيرة .. حين تغنت جميع نساء القرى والدواوير في المناسبات بأغنية يطبعها الحزن والكآبة :
  اولاد الفقيرة ! مشوا للقاهرة!
   أي المقبرة وليس عاصمة الفاطميين الخالدة..
 أما الشعير العجيب المنقذ فقد سمي برويزة لاختلافه عن شعيرنا النحيف وشبهه لحبات الرز الصيني بسنابله القصيرة المكتنزة..
منحوه لنا بدعوى إطعامه للمواشي تعففاً وأنَفَةً لتجنب خدش إحساس الملك محمد الخامس المرهف الذي رأينا طيفه مراراً  على سطح القمر في الليالي المقمرة الجميلة.. نحن الذين نستطيب أكل الجراد والأعشاب ودقيق “يرني” المُرّ وكل ما يطير سوى الطائرات، وكل ما يسير سوى سيارات الجيلالي وولد حمو وولد موسى ومعوه…  وكل أنواع خشاش الأرض وفوبها وثومها وبقولها..
توالت علينا النكبات وسنوات الجفاف ثم الفيضانات وتوالي شهور من الأمطار أحرقنا خلالها أسمالنا وحصائرنا البئيسة من أجل طبخ كسرة خبز  حافية..
في وقت شكلت بركة القاق وحدها مصدراً  لحطب الرحامنة واحمر الذي جرفته السيول عبر شعابها وتلالها القاحلة.  فلا شك أن مصائب قوم عند قوم فوائد.. كما قال العظيم الخالد أبو الطيب المتنبي.
 لن أنسى أبداً غضب أبي الجامح عند ضحك أخي الأكبر أثناء إنهاضنا لبقرة عجوز أعياها الجوع و”برد الليالي ” القارس، وأقعدها عاجزةً عن الوقوف بدون مساعدة من أفراد الأسرة، أو لربما المناداة على أحد المارة كي يقبض من الذيل ويجبرها على الوقوف: واحد گلبه دمّ ويدگ الدوم وواحد يضحك!
   لا رد الله تلك الأيام الحالكات الكالحات.
التعليقات على مشاهدات ذ. الرحيبي: عام الجراد مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

إيقاف شخص بأكادير لتورطه في الاتجار في الحشيش وترويج الكحول

تمكنت عناصر فرقة محاربة العصابات التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة أكادير، أ…