‫الرئيسية‬ منوعات فلاش باك مشاهدات ذ.الرحيبي:عندما أمُرّ أمامَ دَكاكينهم المهجورة أتذكّر أياماً مضتْ ولن تعود..
فلاش باك - 16 مايو 2020

مشاهدات ذ.الرحيبي:عندما أمُرّ أمامَ دَكاكينهم المهجورة أتذكّر أياماً مضتْ ولن تعود..

بقلم: ذ. حسن الرحيبي
* أعتذرُ لكلّ من أبكاهُ شوقي وآلَمهُ حنيني ولوعتي…
يهزّني الشّوق والحنين.. وتغرورق عينايَ بالدموع السّاخنة، ويقشعرّ بدني.. كما ينتابني حزن شديد … كلّما مررتُ من الشارع الرّئيسي والوحيد لاثنين الغربية الصامدة، حين تتراقص أمام عينيّ أطيافُ أشباح لأشخاص ألفنا التقاءَهم ونحن صغار، ولم يعودوا موجودين الآن..
مرّوا كطيف خيال كان يُسعدنا.. لو دامَ لكنه هيهاتَ لم يدمِ !
رحم الله الرّائعة أسمهان الأطرش !
نأتي إليهم حُفاةً لشراء بعض الحاجيات البسيطة كالشاي والسكّر دون نسيان قطع صغيرة من الفانيد مليئة بحبّات من الحمّص.. تحت وابل من الأمطار الشتوية شديدة البرودة، يقينا من قطراتها الزاخرة والمتلاحقة بقسوة، وضع كيس من الخيش الخشن، نُدخل رؤوسنا المنفوشة والمغبرّة في زاوية منه حين غابت المظلات الصينية الرخيصة.. أو خلف دار ولد محراشة، منحنين للعاصفة حتى تمرّ ومعها زخّات المطر الباردة على أجسادنا الهزيلة وشبه العارية …
ونحن نتشبّثُ بألواح من الخشب، وُضعت كحاجز كي لا يلجَ أحدٌ إلى داخل الدكّان المظلم، وتنبعث منه روائح  غريبة ممزوجة بأطياب  كل التوابل من تحميرة وبزار وكمون وقرفة بلدية… مع رائحة الرطوبة الخانقة للأنفاس بسبب ضيق المكان واحتجابه عن أشعة الشمس التي لم تلجه منذ عشرات السنين.
أي منذ عهد منيويل manuel ساكن مّولياس وخايمي jaime الإسباني بائع البينو vino بكل ألوانه وأشكاله وأذواقه في مكان قهوة الجّيلالي ولد سي بوبكر.. !؟، والذي أتذكّر سيرته بجلاء ووضوح وهو ينهال على طفل يشتغل عنده بالضرب المُبرح.. وأمّه المسكينة تستغيث صارخةً بلا حول ولا قوة : اهدا على ولدي آخيمي.. كما حكت لنا امّي حليمة باستمرار.. لا يخلو من شفقة وتأثير !
اسودّت الألواح بفعل تراكم أوساخ أياد تناوبت على لمسها طيلةَ سنوات خلت دون أن يفكّر صاحب الدكّان في تنظيفها أو تغييرها لانشغاله بترويج بضاعته البسيطة: تين مجفّف وحمص مگلي وقهوة وكاربون ومبيدات للحشرات مع مضخة رُسمت عليها كلّ أنواع الحشرات من ذباب وصراصير وعقارب، وأحقاق سردين صفراء كُتب على جوانبها صنع الحاج عبيد آسفي، وعُلب هنريس henri’s والنّحلة، وموناضا سيم  sim وكندا دراي canada dry …
نتطلّع إليها بعيوننا التّائهة على الرّفوف دون الأمل في شرائها بسبب الفقر والحاجة وقلة ذات اليد وقلة الحيلة… لم تعد تلك المضخّات موجودة اليوم بفعل اندماج المبيد مع رشّاشته في نطاق تقدم تكنولوجي لم يهتد إليه صنّاع الماضي.
اختصّ بلغليمي في بيع كل ما يلزم من مواد البناء والصباغة والنجارة، فيما أصبح يسمى اليوم ب “الدروگري” droguerie . وشيتات الجير وكل ما يمكن أن يحتاجه الناس في أشغالهم.
ولا يمكن أن تسأله عن شيء من أقفال ومفاتيح وأدوات ومسامير مختلفة الأحجام والأطوال ومطارق ولا تجدها متوفّرة في حانوته.
وإذا تفاجأ بمن يطلب شيئاً أو بضاعة لم يفكر أبداً في جلبها أو المتاجرة بها، يسجّلها في ورقة كي لا ينسى الإتيان بها من الدار البيضاء يوم الثلاثاء القادم.. حين ينتهي من مشاغل يوم السوق. يحب عمله ويجتهد لخدمة السكان دون كلل ولا ملل حتى وافته المنية..
نبذلُ جهداً كبيراً بسبب قصر قامتنا كي نعلن له عن وجودنا بطلبنا البسيط: رابعة تاع السكّر.. ! لا يتجاوز ثمنها آنذاك 20 سنتيم أو فرانك.. لكن يصعُب على الأهالي توفيرها آنذاك .
عندما لا نتوفر عليها نقايضها ببيضيتين.. مُقايَضة  un troc متيسّرة في ذلك الزمان.. حتى بالنسبة للحلّاق ومول الطاحونة، يأخذ البيضة تلوَ الأخرى، يضعها في كفّه متّخذاً إياها كمنظار إلكتروني يصوبه نحو الشمس ليرى هل البيضة مغشوشة أم سليمة..؟ يعمل كمختبر تجريبي لفحص البضائع والسّلع.
كثيراً ما يُرجع إحدى البيضات البئيسة معلناً بصرامة لا تخلو من تحدّ وعُنف: هذ البيضة خامجة..! أو فيها الفركوس.. يراهُ يتململ داخلها.. ضعفَ الطّالبُ والمطلوب.. !
نتوجّه للدكاكين حسب اختصاص أصحابها: قهوة الطّيارة عند امحمّد ولد لخربش.. دقيق الناگة عند سي أحمد ولد عمرو.. الكاربون والگاز عند مّيزّة.. الشريحة عند ولد عبد المالك أو إبنه كحيل.. دفتر الأسد والكولورات عند بوشعيب بلهلالي… من أراد الجّير  أو البوصلانة لا توجد سوى عند امحمد ولد موسى.
ليس كل الحلاّقين يقبلون التفاوض على الأجر.. أكثرهم مرونة وتعاملاً: كبّور والسلطان.. لا نذهب إلّا قليلاً عند عبقادر خو عبيدة أو فؤاد والرداد والشطايني والمعاشي وسي عبد رحمان…
لازالت تتردد في ذهني أصوات طالب معاشوات: فاتح، عمر، ولد لبصير، دحان، كريّم،  لحمام الوافد على المنطقة من مكان مجهول … وهم يرددون عبارات منحطة لا نسمعها إلّا في الفيلاج: آخّي..! آلروا .. تّاخُرج سير…
كلمات نخاطب بها الكلاب والحيوانات في الدوار  فقط.. وصوت ولد العاود المعروف بفرحي وهو يشرع في ملء حافلة آسفي مُنادياً على منْ لا زالوا في السوق أو لم يغادروا دواويرهم بعد..
يبدأ الصياح من السابعة صباحاً كي لا تتحرك إلّا بعد الظهر: عاصفي  الحصبة،  دار السّي عيسى.. !
يجلس المسافرون داخل الحافلة نصف يوم بأكمله دون حساب للوقت.. لا وجود لعامل الزمان la notion du temps في أذهانهم..  شعارهم الوحيد: اللّي بغى يربح العام طويل..!
والتّأخّر في الوصول خيرٌ من عدم الوُصول بالمرّة.. !  لا تُسرع يا أبي إنّنا في إنتظارك ! ثمّة بقينا !
نفس الشيء بالنسبة لكيران الجديدة عبر الوليدية وولاد غانم.. يأتون فقط يوم السوق.. ينادي الكورتي طيلة النهار والناس تنتظر تحرك الكار حتى المساء..
الجديدة الوليدية ولاد غانم…! يرددها باستمرار شخص بصوت أجش لازال صداه يتردد في دماغي.. تسمع مناداة بين الكورتية : وابعيلّة ! وابودارمة… انقرض الجميع !
أحدهم رأيته في السوق أخيرا.. لم أعد أتذكّر إسمه، لكنّ صورته لازالت عالقةً في ذاكرتي وهو شابّ طويل مفتول العضلات.. إنحنى ظهره الآن بفعل ما مر به من مشاق وحمل للأثقال لما يقرب الستين سنة.. انحنى للعاصفة كي لا تمر أبداً، ولا يستقيم ظهره مرةً أخرى !
صوتُ أقدام طامو بنت غدّة تدكّ بها الأرض الصلبة حافيةً وهي تركض نحو المجهول حين يتطاير نقع الغبار خلفها محدثةً نفسها وغير مبالية بكل ما يحيط بها أو يدور حولها..
وصوت أخيها امحمّد وهو ينبعث من جوف حافالة متهالكة تتجه نحو الدار البيضاء، مهدّداً ركّابها بدفعهم خارجها إن لم يدفعوا ثمن “التّبردر” أو يعطيهم النعناع إذا لم يسرعوا في دفع الأتاوة اللّازمة.
رموز لِمَعان وألفاظ لا يفهمها سوى الضالعين في فقه لغة المجانين الحُكماء.. ! وصوت عبد الرحمان الهاتر بطربوشه الأحمر وعينه البيضاء المفگوسة وهو يردد: آغدّة السبت..!
دون نسيان صوت الهنتوف الرّهيب بعينه الحولاء المخيفة ورأسه العاري وجسمه الضخم وثيابه البالية المتطايرة، يحمل سفوتاً من الحديد.. يكتشف بحدسه الحيواني البدائي أو حاسّته السّادسة ولربّما السّابعة أو أقلّ أو أكثر، كل أنواع اللّصوص ويشم رائحتهم ككلب متوحش: واشفّار ! واشفّار..!
وصوت بائع البيض القريب إلى الصّراخ، وهو يطوفُ في دروب السوق قافزاً فوق حبال القياطين الممتدة في الشوارع، حاملاً لسرة نقود، وباحثاً عن الصرف لقروش صغيرة يحتاجها في دفع ثمن البيض لنساء قرويات فقيرات مُردداً: وا من عَدّو رگيگة !
يحولها العربي لشهب لازمةً للسخرية من أحد أبناء دوار الصديگات الأقوياء في حرب عايشور ضد البريبرات في المدرسة هاتفا: وامن عدو عنيجة..!
وصوت بائع لوازم وأدوات الحرث: آشّاري گفيّة..!
مع صوت رجل ضخم وقور وضرير يكاد يمزق القلب رأفةً وإحساساً بالعطف: وازيد آلقاصد باب ربّي ! راه المودّعة فيد الله ما تضّيع …
تختلط الأصوات وتتلاطم الذكريات ثم تخفُتُ لينحبس الدمع في عيني مع غُصّة في حلقي أسفاً على أحداث وأشخاص ضاعوا في زحمة ماض لا يعود وتاريخ لا يرحم..!
أعتذرُ لكلّ من أبكاهُ شوقي وآلَمهُ حنيني ولوعتي الجَيّاشة..  فحُبّي لزمان مضى وفات وكاد يطويه النسيان، جعلني أنفُض عنه غبار السنين لأني أعرف أن معي أصدقاءً كثراً يقتلهم الحنين والشوق مثلي أو ربما أكثر.. عندما يتذكرون معلمين وأصدقاء لهم عايشوهم في اثنين الغربية وطرقها الجميلة في فصل الربيع بأزهارها وسنابلها المنحنية من فرط الخصب.. والموحلة شتاء بفعل الأمطار الغزيرة وفيضان القاق وضاية الرحبي والمداحية وضاية الكرشة وفوسي بنضرة..
رحم اللهُ الجميع
التعليقات على مشاهدات ذ.الرحيبي:عندما أمُرّ أمامَ دَكاكينهم المهجورة أتذكّر أياماً مضتْ ولن تعود.. مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

إيقاف شخص بأكادير لتورطه في الاتجار في الحشيش وترويج الكحول

تمكنت عناصر فرقة محاربة العصابات التابعة للمصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة أكادير، أ…