في ذكرى السي محمد الكغاط.. إجلالا لرائد المسرح المختلف
الجديد نيوز: بقلم د. حميد تباتو
يستحضر عشاق المسرح بفاس، ومجموع أحباب الراحل الكبير السي محمد الكغاط آثاره، وعمله، وصورته في ذكرى رحيله التي تحل يوم 29 يونيو، وهي ذكرى حزينة لي شخصيا أستحضرها بكل مرارة الوجود، حيث تعود معها كل صور الراحل، وصوته سواء حين ودعناه في جنازة مهيبة، أو حين كان لي به اتصال أخير وهو طريح الفراش يعالج خارج الوطن، أو حين وصل نعيه… أو حين نظرت في وجه وعيني الراحل السي حسن المنيعي قرب بيت السي محمد قبل إخراج جثمانه في وداع للوجود، والبيت، والناس، الأحباب..
حين تعود صور الراحل ليس في يوم محدد بل في كل أيام الله، أستيعد صورة أستاذي الجليل الذي درسني المسرح، وموجهي الذي أشرف على تأطير بحثين لي الأول حول السينما المغربية وكان الأول في المجال بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بقلعة ظهر المهراز بفاس أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وكنت قد توجهت إليه بمقر الشعبة، واقترحت عليه محورين الأول حول السينما المغربية، والثاني حول المسرح المغربي، وقال لي دون تردد اشتغل على السينما المغربية، وننظر في الموضوع الثاني في مستوى آخر، وهو ما تحقق لي حين أشرف لي على بحث الدراسات المعمقة حول اتجاهات المسرح المغربي.
إضافة إلى هذا شرفني بمناقشة رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا، وكتابة تقديم لكتابي الأول حول السينما المغربية الموسوم ب “السينما المغربية قضايا الإبداع والهوية”، كما شرفني بالحوارات التي تكرم علي بها لبعض المنابر المكتوبة التي كنت أشتغل معها صحافيا، ولبرنامج “عوالم مسرحية” الذي كنت أعده، وأقدمه لإحدى المحطات الإذاعية. لقد كان بكل سخاء الكبار، وبسحر المبدعين الحقيقيين، وبمتعة وفاعلية الصادقين في البسمة، والمعاملة، والتقدير، والعطاء، ومن الذين يوصلون لك بدفء، وحرارة، ومحبة المعارف، والإفادات، والتوجيهات.
ما ميز أستاذي السي محمد دوما هو ملاقاة كل من يقصده بالابتسامة، وتواضع الكبار، وعدم التبرم من أي طلب. أكثر من هذا كان يترجم شموخه في صيغة تقديره لأساتذة آخرين ومن بينهم الراحل السي حسن المنيعي، هذا الذي كان يبادله نفس التقدير، وهو ما ترجمه في مجموع ما كتبه عن أعماله النظرية والإبداعية التي منها المرتجلات، أو “وجدتك في هذا الأرخبيل”، أو “الممثل وآلته”، وتعليقا على مسار الراحل الإبداعي والنقدي قال أستاذي الراحل السي حسن المنيعي “تعد كتابات المرحوم محمد الكغاط المسرحية والنقدية انعكاسا لثقافته الجامعية، ولوعيه الموضوعي بأهمية الفن الدرامي في الحياة الإنسانية. لهذا، يمكن القول بأن آراءه حول هذا الفن ليست نتاج نظرية عمل على بلورة أهدافها ومبادئها في بيانات، أو أرادها أن تكون جوهرا لتوجه مسرحي معين، وإنما هي آراء نابعة من علاقة وطيدة بمسرح الهواة وبالسنوات الطويلة التي قضاها في خدمته ومعايشة أوضاعه ومشاكله”.
حقيقة لم يعن الراحل السي محمد الكغاط ببلورة تصور نظري ما للمسرح الذي يريده، لكن تلاقي الأطر النظرية العامة لهذا المسرح في ممارسته الإبداعية من مداخل التأليف، والإخراج، والتشخيص، وهو ما أدركته شخصيا في مجموع نصوصه المنشورة في حياته، أو بعد رحيله، وفي عروضه التي أتاحت لي أقدار الدراسة، والعيش بفاس أن أحضرها ومنها “المرتجلة الجديدة”، و”مرتجلة فاس”، ومرتجلة شميسة لالة”، و”بشار الخير”، و”وجدتك في هذا الأرخبيل” المقتبسة عن نص لرائد الشعر المغربي السي محمد السرغيني.
جوهر الأطر النظرية هو ما عكسه الراحل في صيغ أدائه لأدواره في المسرح والسينما كما في “إيمتى نبداو”، عن نص للكاتب الجزائري محمد بنكطاف، وإخراج عبدالواحد عوزري، وأداء محمد الكغاط وثريا جبران، والفنان البشير عبدو، وهو ما يبرز في عمله المترجم فعلا لمعنى المسرح الجامعي وهو “وجدتك في هذا الأرخبيل”، المقتبس عن نص لأحد الرواد الكبار للشعر المغربي، محمد السرغيني. هو ما تبرزه بوضوح كذلك كتاباته النقدية، خاصة “الممثل وآلته”، و”المسرح المغربي بين التراث والنص الثالث”، وأبحاثه الأكاديمية خاصة “بنية الـتأليف المسرحي من البداية إلى الثمانينات”، و”المسرح وفضاءاته”، وشخصيا أعتبر أن ما يعكس الأطر التنظيرية الضمنية في تجربته بالفعل هو أشياء عديدة منها ثباته في العمل من داخل مسرح الهواة، ومن داخل فضاء جمعية” هواة المسرح الوطني”، ورفضه لصيغة الاحتراف كما فرضتها المؤسسة الرسمية في بداية هذا المشروع، و الارتباط العاشق الكبير بالمسرح تأليفا، أداء، وإخراجا، ونقدا، وبحثا، وتدريسا… كل هذا يعد صيغا عملية لتشكيل خصائص المسرح المختلف الذي عني بتضمين أطره النظرية في الممارسة الإبداعية.
لقد بلور الراحل السي محمد الكغاط رؤية متجددة للمسرح المغربي، تنشغل ببناء مواصفات الاختلاف من داخل التجربة الإبداعية الخاصة، ومن خلال فهم نوعي وخلاق للأداء، والإخراج، والكتابة، وتمثيل التراث، وصناعة الفرجة، والارتجال، والتجريب، والاقتباس… هذه الرؤية هي ما احتكم إليه في قراءة العمل المسرحي، وتحليله الدراماتورجي، وفي فهمه للعلاقة الثقافية، ولمعنى الوجود، والعطاء، والحب، والتآخي في القارة الإنسانية.
تعود ذكرى الراحل العزيز السي محمد الكغاط، ويتذكره أصدقاء، ومسرحيون، وعائلة من خلال لقاء ثقافي بهي بمقهى لاكوميدي أمس السبت 29 يونيو 2024، وهي مقهى شكلت فضاء قصدناه دوما لملاقاة السي محمد الكغاط في حياته، ويقصده كل من عرفه، وارتبط بالمسرح، والثقافة بفاس لملاقاة صور ذاكرة حضوره، وصور مسرحيين كثر عبروا من هذا الفضاء إلى صمتهم الأبدي، حيث يرتاحون بعد أن أعطوا كل جهدهم لفاس، والثقافة، والمسرح بكل سخاء.
شكرا للمبدعيين المسرحيين السي عز العرب الكغاط، والسي فهد الكغاط على حرصهما الجميل والصادق على صيانة ذكرى الراحل، واستمرارية حضوره بيننا، ونقول لكم نحن معكم من بعيد، وأبدا لن ننسى السي محمد الكغاط الشامخ في ذاكرتنا، بعد أن وقع وجودنا ببهاء الخالدين.
“اليونسكو” تدرس تسجيل الحناء على قائمة التراث الثقافي غير المادي
أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، أنها ستدرس، شهر دجنبر المقبل…