‫الرئيسية‬ منوعات فسحة الصيف 30
منوعات - 20 أبريل 2023

فسحة الصيف 30

ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …

أعدها للنشر منير الشرقي

بقلم : توفيق الوديع

فـي طـريـق الـعـودة… ” لازال فـي الـقـلـب شيء يـسـتـحـقُّ الانـتـبـاه ”

أسية الوديع في عناق حار مع سي عبد الرحمان اليوسفي …

بكت آسية دموع فرح و هي تتابع الاستقبال التاريخي الذي خصّصه الملك لـعـائلات مـن اكـتـوى بـلهـيـب سـنـوات الجمر و ذاق ويـلات الاختطافات و الاغتيالات … ذكريات عصفت بالجميع، بكينا تأثرا و اعتزازا، خصوصا و أنّ الشباب الذي ذاق مرارة المعتقلات المجهولة، هو من حرص في كهولته على التّحضير لذلك الاستقبال التّاريخي .

لم يستسلم، ادريس بنزكري، للمرض إلا بعد أن وقّع على جُلّ القرارات التي سهرت على ديباجتها هيئةُ الإنصاف و المصالحة و استطاع، بذلك، مُصالحة أُمّة بأكملها .
حافظنا على التقاليد السنوية … بعد رحيل الوالد
فاتح رمضان و الفطور بمنزل العائلة ! … الوزيس،
عيد الفطر و كأس شاي معطر و بعض الحلوى … بنفس المكان،
عيد الأضحى، نحر الأضحية، بنفس المكان، مع اختلاف بسيط وعميق، فآسيّة كانت تُفضّلُ زيارة سجون المملكة للسهر على مراسيم الاحتفال مع السّجناء و إعداد طعام العيد و لم تكن لتأخُذ أولى وجباتها إلا حوالي الساعة الخامسة من مساء يوم العيد، و درء لمؤاخذات مجّانيّة، كانت تصيح و هي لا زالت على باب بيتها.” وافـيـن قـطباني واش خلّيتو لـيـّا شي لحمْ و لا والو …”
كان العربي، الذي استوطن مدينة العلم الفرنسية، ڭرونوبل قبل ثلاثة عقود قد حقق أمنية ثريا بالحصول على الدكتوراه في الفيزياء النووية، و سهر قبل ذلك على التكوين السياسي و الأكاديمي لعدة أطر مغربية التي تبوأت، فيما بعدُ، عدة مناصب سامية …
عاطفته القوية جعلت حساسيته مفرطة، فبقدر حبه لوطنه بقدر انخراطه السياسي في أجهزة اليسار الاشتراكي الفرنسي حيث كان فاعلا متحملا لمسؤوليات جهوية .
حافظتُ كذلك، تدخّل العربي، على العمل الذي عاهدتُ نفسي عليه منذ حـلـولي بالديّار الـفـرنسيّة : تـكـويـن الشّباب المهاجرعلى الوطنيّة الصّادقة و الحرصُ على الدّراسة و التّحصيل أوّلا و قبل كُلّ شيء، و توعيّته بمشاكله و طُرُق حلّها و بغنى تاريخ المغرب العربي و تضحيّات أبنائه .

كانت عطلي الصّيفيّة مخصّصة للترويح عنّي وعن آسيّة فكنّا نأخذ بعضنا في جولات حول ربوع الوطن و ما أجملها، نلتقي بسطاءه الذين أصبحوا يعرفون آسيّة من خلال نشاطاتها، و لم تكن تَسْلم من انتقادات و عرض شكاوى حول تقصير بعض الإدارات، لم تكن لتغيظها بل تسهر على أخذ المعلومات من أصحابها و غالبا ما تتّصل بالمسؤولين في الحين من أجل إيجاد حلول جذريّة، و إن تعذّر عليها الحلّ كانت تلتفتُ لي قائلةً … ” أش ظهر ليك نعـيّـط عـلـيـه هـوا بـوحـدو اللي غايفهمني و يحلّ ليّا المشكل ؟ ” و كانت تقصد الملك … و لم تكن تتردّد و لم يكن ليرُدّ طلباً .

” أتذكّر وطنيّتك التي تعدّت الحدود، فحين كنّا في زيّارة لاسطنبول، لاحظ توفيق، كان المرشد التّركي الذي تكلّف بشرح تاريخ التوسّع العثماني ذكّر أنّ الجيوش العثمانيّة وصلت إلى مدينة وجدة، بل و تعدّتها …
لم تترُكيه يا آسية يستمرُّ في شُروحاته، بل ثُرت في وجهه قائلة : ” لماذا تحرّفون التّاريخ … ؟ المغرب هو البلد الوحيد الذي لم تستطع جيوشكُم الوصول إليه و إلى اليوم لازالت الوحدة الوطنيّة مقدّسة عند جميع الهيئات السّياسيّة بما فيها الأكثر راديكاليّة .”
رغم مرور سنوات على وفاة الوالد، استمرّ توفيق، لم يكن العربي قد تقبّل ذاك الرّحيل، أثّر فيه كثيرا فقد هاجر و هوبعدُ مُتعطّشٌ لحنانه و لتجربته التي اعتبرها مُتفرّدةً، و كم كان معجبا بشخصه … و رغم ارتباطه بصديقة كانت تقاسمه مجموعة من الأفكار و الكثير من الود و المحبة لم يعوّض ذاك الغياب رغم توالي السنوات …
فعلا فقد أشار عليّ الأطباء، تدخّل العربي، الخلود للرّاحة النفسية في بعض المستشفيات الجبلية ضواحي مدينة غرونوبل حيث قضيتُ عدة أسابيع قبل أن أعـتبر نفسي متعافيا، وعـدتُ إلى نشاطي و مرحي الذي كان في أوجـه و أنا أتقاسمه مع بنات و أبناء إخوتي، الذين اعتبرتُهم أبنائي و على رأسهم العميد يوسف الذي أسس معي علاقة خاصة …
أبرع العربي في كتاباته بالعربية و الفرنسية، استمرّ توفيق، … صاغ أشعارا و نثرا … تحدث عن الحب و الحياة … و الجمال في كل صوره …
ألو حبيبي …
” نعام يوسف ياك لاباس .” أجبته بتوجُّس فلم يكن يناديني بصفتي إلا إذا كان الخطب جسيما …
“حبيبي العربي … تأكّد استفحال سرطانه … كلاه أحبيبي “.
كان العربي قد خضع، من قبل، لعمليّة استئصال معدته بعد أن تفشى فيها المرض، و كان الطّاقم الطّبيّ متفائلا …
آسية، في كامل حيويتها و نشاطها، أحبطتها الأخبار المتواترة و السلبية عن صحة أخيها، فقد اعتبرت نفسها مسؤولة عن الجميع، خصوصا بعد رحيل الوالد … كانت منهارة و هي تتلقى آخر أخبار الحالة الصحية لسادس الإخوة، فقرّرت السّفر لمؤازرته …
بعد عودتها بدأت حالات تعب و انهيار غير مفهومة تنتابها، جعلت الأبناء الإخوة، الزوجات والأزواج يفرضون عليها عرض نفسها على مختص للحسم … و قَبِلَتْ على مضض
الرابع من أبريل 2012 … و كان يوم أربعاء مرّة أخرى … كان موعدُها مع الفحص المخبري
ما نتيجة التحليل يا عزيز …
ورم خبيث في آخر المعدة، رُبَّما وجب استئصالها بالكامل …
توقف الزمن، دَوَارٌ جعلني أوقف اجتماعي و أنسحب معتذرا … فالخبر نزل ثقيلا كالجبل على كتفي … هل هي بداية النهاية …
أخذت هاتفي و ركّبت الرقم بعد تردد كبير …
يوسف كيف الحال يا ولدي …؟
لم يصل الصوت … كان مختنقا من فرط البكاء … و انقطع الخطُّ …
ألو صلاح … و لا شيء … صمت معبر على طرفي الخط …
و جب الصمود يا توفيق … هذا حالنا و مآلنا …
أخذت الطريق الأطول للوصول إلى المنزل، و عند بابه خانتني شجاعة مواجهة المريضة و عدت من حيث أتيت …
عند المساء عاودت الكرّة مرة أخرى، و عند سؤالي عنها بباب البيت أخبرتني مرافقتها بأنها تستريح … غادرت و رفضت إيقاظها ليس رأفة بها لأنها تحتاج للراحة … بل لأنّ الشجاعة خانتني مرّة أخرى، و أخّرت اللقاء إلى اليوم الموالي …
أخبريها أنّني سآخذ قهوة الصّباح معها …
و في صباح اليوم الموالي طلبت من أسماء زوجتي مرافقتي فلم أكن أستطيع مواجهتها … لوحدي
عند نهاية نفس الأسبوع كان الغذاء عائليا، التف حولها الجميع … و تفادوا الحديث في الموضوع فكلهم في انتظار نتائج تحاليل أكثر دقة …
صلاح أبى إلا أن يلقي بعض أبيات المتنبي التي كانت تعشق، و عزيز ينكت كعادته يداري الحزن الذي استوطن …
و في لحظة من اللحظات طلبت من الجميع … الهدوء فقد توصلت بمكالمة مهمة …
شكرا سيدي .. بالفعل لن أتوقف عن العمل إلى النهاية …
كان الملك على الطرف الآخر من الخط يَطْمَئن على حالتها … طمأنها أنه سيتكلف بجميع المصاريف، و الإجراءات، و نبهها إلى أن الوطن لا زال محتاجا لها و لـم يـقـفـل الـخـط دون تـذكـيرهـا بالانتباه إلى صحّـتهـا أوّلا، و التّسلّح بالعزيمة التي لن تنقُصها من أجل هزم هذا المرض اللعين …

استفحل المرض، و انتشر بسرعة في جميع الأعضاء، رغم المقاومة النفسية و المتابعة الطبية و الملكيّة، فستة أشهر كانت كافية لينتصر الدّاءُ على الجسد الذي لم يعُد يحتمل …

عيد الأضحى على الأبواب ، نظّمَتْ و وزّعت عدداًمن الأضاحي على كل سجون المملكة، و كلفت من يسهر على دقائق الأمور متعهدة بزيارتهم حالما تستقر أحوالها الصحية .
كثير من المشاريع سابقت الزّمن لإنهائها قبل الرّحيل الذي صار حتميَّا :
” يوسف، يجبُ أن تُكمل كلّ الإجراءات القانونيّة لاقتناء منزل لربيعة، فهي من سهرت على تربيّتكما و رافقتني على مدى أربعين سنة .”
” توفيق، اسهر على إنشاء مُقاولتك في البناء، فأمثالُك من المُقاولين هم من أستطيعُ منحهم ثقة الإدارة في إنجاح مشاريعها بكلّ نزاهة، لك منّي مبلغٌ أتمنّى أن تستطيع، به، الانطلاق ”
كان سؤال القصر عن تطورات الحالة يوميَّا، و ظل الملك يهاتفها إلى أن تعذر عليها الرد …
رحلت آسية فجر صباح خريفي، و هي تردد وصيتها …” حافظوا على جمعيتي و اعتنوا بأبنائي السُّجناء، إنه العهد الذي أطلب منكم أن تلتزموا به ما حييتم .”
نـزل الخبر كالفاجعة على الملك أوَّلاً و السجناء ، وعـلى مكونات المجتمع و فئات شعبية كبيرة .
كان الفقد وطنيا مرَّة اخرى، و الملك حرص على أن يكون أول المعزين، السائلين عن أحوال العائلة الصغيرة بعد الفقد الفاجعة … و السّاهرين على تفاصيل العزاء و التّكريم …
عـبـد الرحمن … رافـق العائلة في حـزنها طوال أيام العـزاء، و كان يـردد و هو في الغرفة التي أثتتها آسية قبل رحيلها و جعلتها ملكا للجميع : ” كأني بثريا محمد و آسية مجتمعين في هاته الحديقة، يؤطّرون نقاشات سيّاسيّةً و بعدها يستمعون لأروع أغاني محبوبتهم أم كلثوم .”

حضر العربي لجميع المراسيم، كان منهكا … أصر على الوداع الأخير و هو يعلم جيدا أن مقامه بين إخوته و رفاقه لن يدوم طويلا فالورم مستقر و عنيد لن تنفع معه كل محاولات الإستئصال …

حول المائدة بأزقّة إشبيلية الضيّقة، انتبهت أسماء إلى عناق آسيَّة والعربي وانسحابهما معًا بهدوء، من مجمع الحاكين، و قبل أن يختفوا وسط الزّحام على أبواب الخيرالدا، رفعت سامية عيناها، و دون شعور منها أطلقت ساقيها للرِّيح محاولة الوصول للرَّاحلين دون جدوى فقد كان القدر أقوى منها و من الجميع … و اختفوا بين الجدران العتيقة لإشبيلية .

لم يتركها أسامة وحيدة، بل تبعها و عانقها بحنُوٍّ … هي التي رفضت ذاك الـرّحيل الـصّادم … أمّا هـو فـقـد اعتبر نفسه أقوى من أن يُعَبِّر عن أحاسيسه … لم يبك و ظلّ صامدا في وجه كُلّ العواصف المزلزلة التي كانت من نصيب حفدة ثُريّا و الآسفي …

و هي تعود نحونا تساءلت بعصبيّة و الدّموع تخنقها :
” لماذا غيَّرتَ الحقيقة، في قصّتك، يا والدي فعمّي العربي ظلَّ معنا و لم يرحل إلا بعد سنة و نصف بعد رحيل عمَّتي آسية … كُنتُ أودُّ أن يستمرالحكيُ أطول و ها أنت تختصر ”
” فعلا يا بنيَّتي لم يرحل جسديًّا و لكنّ روحه رحلت برحيل آسيّة … لقد كان رحيلها الضّربة القاضيّة التي أجهزتْ على كلّ أجهزته المناعيّة البيولوجيّة، و تركت المرض اللّعين يفعلُ فعلتهُ .” كان توفيق يحاول التّرويح عن صغيرته التي كانت متأثّرة و تائه تفكيرها …

ظل الملك متتبعا لمسار العائلة، ختم توفيق، و لو عن بعد و لم يغفل توشيح و تكريم آسية بعد رحيلها من خلال يوسف و كان لقاء عائليا بعيدا عن التقاليد رغم رمزية مناسبة عيد العرش … كان عناقا خاصا و تنويها بالراحلة و اعترافا بحبّ خاصّ لشخصية وطنية جعلت حياتها ملكا للوطن و لا زالت مثالا يحتدى …

رحلوا … جميعا …
ربتت سامية على ظهر والدها، محاولة التخفيف من حالات التأثر التي بدت واضحةً عليه و هو يُنهي استعادة شريط زخم ذكريات مؤرخة لأشخاص بصموا مرورهم في حياة أمّة بأكملها …

” أغبطك يا والدي على هذا المسار الذي عشتموه، هوغنيٌّ بالأحداث و التّواريخ التّي وَجَبَ أن تُحكى حتّى تستفيد منها كلّ الأجيال.”

هذا المسار با بنيتي، وجب على كل مُحب لتربة وطنه أن يسير على نهجه، فحُبّ الوطن من حبّ الله يُبنى على أكتاف الأفراد، و الجماعات التي وجب أن تـتّحـد من أجـل حـمـايـة الـبلاد، الـدّفـاع عـن وحـدتـه و الـنـضال الدائـم و الدؤوب للحفاظ على المكتسبات، من حريّات فرديّةً و جمَاعيّةً، و من حريّة الاختيارات بما لزم من احترام للجميع، همنا الذي وجب أن نستمرّ في النّضال من أجله و الحفاظ عليه هو حرية المعتقد و استكمال بناء الوطن على أسس مثينة … مع الإقرار بملكية برلمانية .”

و ما الملكية البرلمانية يا والدي، سأل أسامة الذي ظل صامتا …
“بخلاصة هي أن نفرق بين سلطة الملك و السلطة التشريعية و التنفيذية فمُؤسسة الملك يجب أن تعلو على كل مكونات المجتمع ممّا يمنحنا حريّة أكـبـر لـمحاسبة كـلّ مـن سوّلت له نفسه العـبـث بالمكـتسبات التي نـنـاضلُ و ناضل من أجلها أسلافنا و علينا و عليكم الحفاظ عليها … لتظلّ بيد الملك سلطة الفصل عند الاختلاف، فهو طبعا أمير المؤمنين … المسؤول الأول عن كل ما تعلّق بالمسائل الدينيّة البعيدة عن التسيير السيّاسي .”
” أنا سأسيـر عـلى نهج هـذا الرجل الذي أحببته كجدي السّي عـبد الرحمن و سأعمل بكل ما أوتيت من قوة من أجل عزة أبناء شعبنا و تصحيح اعوجاجات الساهرين على سياساتنا … و أحزابنا ” تدخل أسامة باندفاع المراهق الذي تلقى، من خلال الحكي، إشارات جعلته يقرّر الإنخراط بعفوية في مسار الجدّ والجدّة .

” أما أنا فمسار عمتي آسية أخذني و سأنخرط فيه بكل قوتي و أعملُ على السّير على نهجها ” كانت سامية مزهوّة بنفسها و هي تعبّر عن قرارها بكلّ اعتزاز …

” لكما ذلك و لكن، عليكما بالدراسة و التحصيل أولا فبالشهادات العليا، وحدها تستطيعان تحقيق حلمكما … و الوصول إلى مستويات مسؤوليّات تخوّل لكما التغيير والحفاظ على كلّ مكتسبات الأسلاف وهذا أمل و مراد كل الفعاليات الوطنية وانتظارات ملك البلاد أيضا و هـكـذا تحافظون على نضال أجدادكـم و كل أفراد عائلتكم …” عقبت أسماء .
عند الحدود، سمحوا للعائلة بالمرور دون كثير تفتيش، و بعد تجاوُز نُقطة العبُور، انتفضت أسماء مُحتجّةً :
“كيف يسمحون لنا بالمرور هكذا دون حتّى أدنى سُؤال، أظنّ أن في هذا خطرٌ على أمن البلد .”
” وا دابا كـيـمـّا دارو معانا وحْلُو … قـلبونا … عـلاش يقلبونا … مـا قلبوناش … علاش ما قلبوناش … وا وحلا هاذي أ الوليدة، راه النّاس عندهوم تقنيات جديدة ديال التفتيش.” كان أسامة يُلاحظ على والدته التي توجّست من تسهيل المرور و أضاف مُنكّتا :
” لقد فهموا أنّ حجم مُشترياتك كثيرة، و فضّلوا عدم إحراجك معنا …”

********
في باحة جامع السُّلطان أحمد، قبالة كنيسة القدّيسة صوفيا شدّتني ذكرياتٌ أخر، روحانيّةٌ اقتسمناها قبل عقدين من اليوم .
استطعتُ أخيرا، أختي، أن أُحقّقُ وعدنا و أعود لزيارة تلك الأمكنة مع أحباب آخرين …
و ها هو نفسُ المُؤذن يصدحُ، بصوته الجهوريّ، مُعلنا دخول وقت صلاة الظّهر و كلّ جوامع اسطنبول تردّدُ نفس الآذان بنفس الجماليّة … و لا زال الأتـراكُ يحُجّون و يـلـجـون باب مساجد الـمـديـنـة دون أيّ تمييز بين الذكر و الأنثى …
أراك تبتسمين و أنا بعْدُ مُستغربٌ من تعامُل لم نعهدهُ في جوامعنا … المساواةُ في ولوج أمكنة العبادة للذكر كما للأنثى … حتما فحيثُ أنت لا مجال لأيّ تمييز كالذي ابتدعهُ السّاهرون على شؤوننا الدّينيّة و كأنّنا بعدُ قاصرون …
لا زال هذا الشّعبُ مُحبّا للحياة، مُتشبّثا بعلمانيّته … موسيقى … لحظاتُ مرح … و لا زال يطربُ لصوت القرآن كذلك … و قد برع مؤَذّنوه في النّداء حيّ على الفلاح … في احترام تامّ للحُريّات الفرديّة .
على قبر السُّلطان سُليمان، في صحن السُّليمانيّة … حكى لنا مُرشدُنا، بفرنسيّة راقيّة، اعتزاز الأتراك بفترة حُكم من سمّوهُ بالقانونيّ … هو واضعُ أوّل قوانين الإمبراطوريّة و السّاهرعلى تطبيقها … و فيها ساوى بين جميع الأتراك يهوداً، مسيحيّين و مُسلمين … و أصرّعلى تذييل اسم النبيّ محمّد بوصف ” عليه السّلام ” فحسب، إسوةً بمن سبقهُ من الأنبياء الدّاعين إلى التّوحيد …
كلُّ أزقّة اسطنبول تتذكّرُ ابتساماتك و حُبورك و نحن نكتشف حُبّ الأتراك للموسيقى، و فنّ عزفها في المساءات الجميلة في ساحات المدينة … و على ضفاف البوسفور كذلك …
في أحياءُ لاَلَلِي، ساحاتُ تقسيم و برجُ ڭلًطَة … و على طول شارع الاستقلال لا زلت حاضرةً و بقُوّة …
لا زالت أسوارُ قصر” طوبّ كابّي ” العتيقة تُردّدُ استنكارك و استغرابك من تواجُد كلّ تلك التُّحف النّادرة التي تعود إلى فجر الإسلام، بل إلى بدايات الدّيانات التّوحيديّة … فمن عمامة النبيّ يوسُفُ مرورا بعصى موسى إلى صندل و شُعـيـرات و لـباس النبيّ محمّد عليه الصلاة و الـسلام و سيُوف بعض الخلفاء، … كيف استطاع الأتراكُ تجميع كلّ هذا التّاريخ في ذاك القصر …؟ نفسُ السّؤال تبادر إلى أذهان سامية أسامة و أسماء …
لم يؤاخذوني، أثناء رحلتي هاته، على تقلب مزاجي، بل اقتسموني حنيني إلى ماض جميل، و اقتسمتُهم دقائق زياراتي معك لكُلّ الأمكنة …
قوّةٌ غريبةٌ شدّتني و أنا أهُمُّ بتوديع المدينة، كأنّي بك تمنعينني من العودة فروحُك حضرت مُنذ حطّت بنا الطّائرة بحاضرة اسطنبول …
لن أُخفيك أنّني أعدت شُربَ نَخب وداع اسطنبول في نفس المكان … مع اختلاف عـمـيـق، فـفي غـيابك … أخذتُهُ مـع أسرتي الصّغيرة التي أحبّتْك بعُمق …، أعترف أنّني كنتُ غائبا تماما حين فاجأتني صغيرتي، التي قاسمتني أدقّ لحظات تأثّري أثناء زياراتي لنفس الأمكنة، و مربّتةً على كتفي قالت :
” عمّتي معك الآن أ بَابَا … أليس كذلك؟، … قبِّلها و بُثها حُبّنا جميعاً …”
أُسامةُ، هذا الذي ورث عنك، فيما ورث، عنادك و رفضك الإفصاح عن مشاعرك … و حُبّك للموسيقى كذلك … أصرّ على زيارة أغلب محلات بيع الآلات الموسيقيّة … و العزف عليها لساعات … كأنّي به يُقاسمُك عشقك للفنّ … للحياة … هو الذي رفض فقدك … لم يَفُتهُ أن يُلاحظ تأثّري فنبّهني قائلا : ” باراكا أ الوليد يا الله نمشيو … لقد حان وقتُ الرّحيل “.
أسماء فهمت، بذكائها الرّصين، ما اعتمل في دواخلي و نحن على مائدة الإفطار، صباح المُغادرة، مسحتْ دموعي … لم تسأل عن سببها … بل تحدّثت في أمور تقنيّة … و انسحبت … فالذكريات تطاردُها كذلك …
مُضطرٌّ لوداعك مرّةً أخرى، ليست أخيرة، يا آسيّة، فروحُك حاضرةٌ هنا حيثُ الجمالُ و الأُلفةُ و الرّقةُ و الموسيقى التي عشقت …
عهدا على زيارتك مرّةً أخرى في اسطنبول مع من استطاع من الأحبّة …
عهدا على شُرب نخب الوصول و الوداع …
فاسطنبول لا زال فيها الكثير ممّا يستحقُّ الانتباه … و في قلوب جميع من أحبّك ما يستحقُّ الانتباه كذلك …
… من حيثُ أنا أشكرك، أخي توفيق …و أوصيك مرّةً أخرى بالاستمرار في النضال من أجل الحفاظ على مغربنا المُتعدّد فهو من يستحقُّ كُلّ الانتباه …
لن أخفيك أخي ابتهاجنا و اعتزازنا و نحن نراكم، جميعا، ملتفين حول هرم المغرب الكبير أستاذ الأجيال عبد الرحمن اليوسفي، و أنتم تتسلمون في حضوره الوسام الملكي اعترافا لوالدنا لما أسداه من خدمات للوطن، كما لن أخفيك تأثّره البالغ حيثُ شدّ بقوة على يد ثريا قائلا و دموعهُ على خذّيه :
” كل ما عملت كان من أجل عزّة الوطن و لم أبغ من ورائه لا جزاء و لا شُكورا، هو وسام أعتز و أفتخر به، و أضعه بدوري على صدرك يا ثريا فكما تقاسمنا المعاناة نقتسم الاعتراف الوطنيّ، كما أضعُه … بدوري على صدور كلّ إخواننا هنا و هناك…”
إنّها الإشارات القوّية، يا أخي، التي وجب أن تزيد من إصراركم أنتم و أبناؤكم على الانخراط الإيجابيّ و الفعليّ في التغيير الذي صار عليه المغرب … وأظن أن الكرة الآن في ملعبكم … ألم تصف في إهداءاتك وليد بقلب الدفاع الماهر؟…فليتسلّم الكرة و ليباغث مناهضي التغيير … و أسامة وصَفتَهُ بالحارس العملاق؟ فليتصدّ بكُلّ العزم و الإصرار لكل الهجمات المُرتدّة تحت مراقبة العمّ عزيز الذي يفضل دور المدافع الصّلب المُتَأخّر، أمّا الشاحنة ندى، التي لا ترحم، فحتما ستنشط هي و أقرانُها في حماية وسط الميدان و الحدّ من تقدم كل ما من شأنه العودة بالمغرب إلى الماضي الرّهيب .
لن أقول إلى اللقاء … بل سأودّعك … و سلامي للجميع … … …


قبر الفقيدة أسية الوديع بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء توفيت يوم الجمعة ثاني نونبر 2012

التعليقات على فسحة الصيف 30 مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة

في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…