‫الرئيسية‬ منوعات فسحة رمضان (25)
منوعات - 16 أبريل 2023

فسحة رمضان (25)

ذكريات عبرت .. فأرخت .. أنصفت و سامحت


هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …

أعدها للنشر منير الشرقي

بقلم توفيق الوديع

وجـبة طـعـام فـي أزقـة إشـبـيـلـيـة..

لم تترك سامية الفرصة تمر دون التسطير على أنها ليست ببرغوثة وأنها حافظة لمبادئ العائلة وعلى رأسها أن كل أفرادها يناضلون ضد القمع بكل أصنافه، وبأنها ستناضل بالغالي والنّفيس ضد قمع الجوع الذي يزيد من لذة الطعام .
الآسفي أصر على الاحتفاظ بيده في يد سامية …
– لا تخف بّا الآسفي، فليس هناك احتمال لتيهان فأنا في كل الأحوال أعرف الطريق المؤدي إلى محل إقامتنا ..
بالفعل، رد الجدّ، أعرف جيّدا أنّك لن تتيهي بنيتي ، ولكن وجب أن تعلمي أن حب الحفيد من حب الابن …
بهمس لا يخلو من تواطؤ، همست الصغيرة لجدها : أرجوك بّا الآسفي ماذا عن الحكي المُوالي لمذكرات أسرتنا ؟
سيكون عن منتصف سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي يا حبيبتي…
إذاً لنسمّ الحكي الثالث : في أفُقِ الانفراج
ربّما … نُسمّيه كذلك حبيبتي، رغم أنّ الانفراج لن يأتي إلا بعد حين … و الآن هل ستسمحين لنا بقمع الجوع …
لن نقمعه يا جدي … سنأكل، فقد علّتمنا ألا نقمع أحدا !!! .
كانت الزيارة التي اقترحها الجدُّ قد أفضت إلى ساحة الأرنال، أُعجبت ثريا بالمعمار، فهو يذكرها بمسقط رأسها … الأزقة الضيقة تجعلك وأنت على شرفة منزلك تخالك تعيش داخل البيت المقابل ! . وهذا هو ما يقوي لُحمة الساكنة بعضها ببعض ويجعلها تتقاسم أقسى وأجمل لحظات حياتها، وأدقّ تفاصيلها كأنها نفس العائلة …
تدخل العربي، محتجّاً كعادته مطالبا بحقّه في أخذ الكلمة ، فقد زار المدينة عدّة مرات، و كانت طريقه نحو المغرب، و هو بعد طالب منذ أوائل ثمانينات القرن العشرين قائلا :
” حي الأرنال يعود إنشاؤه إلى القرن الحادي عشر الميلادي، و كانت المدينة حينها عاصمة للأندلس، هو قلب المدينة النابض ، وقد شيد قريبا من الوادي الكبير، عرف طفرة نوعية بحلول القرن السادس عشر، حين تحول إلى مرفأ عالمي يستقبل السفن القادمة من أمريكا الشمالية، المكتشفة آنذاك على يد كولومبوس، و يُعرف الحي كذلك بتطور فن الرقص الفلامي الجميل … قاطعته سامية بحنو قائلة :
– تعلم جيدا أيها العمُّ الحبيب عشقي للموسيقى والرقص، ولهذا الفنّ على الخصوص ، وقد طلبت من والدتي اقتناء تذاكر لحضور أمسية خاصّة بهذا الفن، وأدعوكم جميعا لاقتسامها معي … أحبتي … فحيثما كان الجمال والموسيقى كنتم حاضرين …
وافق الجميع دون تردد، إلا الآسفي فلم يقبل إلا على مضض فهو لا يستطيع ردّ طلبات سامية ولو لم تكن هي المُستدعيّة لكان قد رفض .
– كاتعرفوني هادشي ديال الشطيح الأروبي ما نعرفش ليه و ما بيني و بينو غير الخير و الإحسان … و لكن معا سامية كلشي مقبول…
– و اتجه نحوها: قائلا إوا هاد الجوع نقمعوه ولا مزال
– نقمعوه أبَّا سيدي إلى كنتي غتحضر معايا للرقص
– ها حنا بدينا فالتوافقات … و التنازلات…
علامات استفهام ظهرت على ملامح الحفيدة … انتبه الجدُّ و طمأنها قائلا : ” لا تـكـثـرتي، فـسـيـلـزمك بعضُ الوقت لتفهمي مثل هـاته المُفردات وستفهمين قريبا ” …
أشكر سامية على الاقـتـراح، قـالـت آسية وهي تحتضنها، فالرقصة جميلة ودالة، تتم بزوج أو على انفراد، و هي لوحة رائعة معبرة ومؤثرة، تؤرخ لرفض لكل أشكال القمع …
آسّي توفيق، واش ماغا ناكلوش راه جانا الجوع ؟ سأل الآسفي من اعتبره المسؤول الأوّل عن برمجة الزّيارات .
على طول أزقة المدينة، كانت قد وُضعت طاولات زينت بشموع مختلفة الألوان وورود طبيعية اختيرت بفنية هائلة، تحلق الجميع حول إحداها على صوت موسيقى هادئة يعزفها زوجان وقفا في منتصف الزقاق .
طلب الجدُّ من حفيده، الاختيار، وكان الإجماع على الطّبق المشهور في المنطقة وهو البايلا ” Paella ” فقد عُرف سكان الأندلس ببراعتهم في تحضيرها …
أما سامية فقد فضلت طبق التورتيا الكلاسيكي سريع التحضير …
– تبعا لاتفاقي مع سامية أقترح أن نطلب منهم بعض المكسرات لنقمع جوعنا في انتظار الطبق الرئيسي، أليس كذلك يا أسامة؟ تدخّل الجدّ موضّحا..
” إذا سمحتم، لن نقمع هذا الجوع، و سأحدثكم، في انتظار تحضيره، عن تاريخ الطبق الذي طلبتموه ” اقترحت ثريا
و هل للطبق تاريخ يا جدتي ؟ سألت سامية باستغراب ؟
– بالطبع يا صغيرتي، فقصته تعود إلى أيام حكم العرب للأندلس، حيث كانت موائد الحكام والأعيان تتزين بكل أنواع الأطعمة اللذيذة ، من أسماك على اختلاف أنواعها، ولحم و دجاج و أرز … و طبعا عند نهاية الوجبات تكون بقايا الأطباق قد امتزجت بعضها ببعض مكونة خليطا، وعوض أن ترمى كانت توزع على فقراء المدينة بعد أن يكون الطباخون قد برعوا في مزجها ووضعها في أطباق خاصة قبل تقديمها … و لهذا دأب فقراء الأندلس على سؤال خدم القصور على البقايا … فالبقية إذن هو أصل التسمية التي تحولت إلى بايلا …
لم تستطع ثريا الاسترسال في الحديث بعد الجلبة التي حصلت عند تقديم النادل لطبق سامية، فالعربي كان بارعا في إثارة الصغيرة ، وذلك بمحاولة اقتسام طعامها دون رضاها ، فلم يكن منها إلا أن نبهته قائلة، و هي تحمي ممتلكاتها من الأكل …” استمع يا عمي لحكاية جدتي فهي شيقة وممتعة وربما شارَكتني … بعد ذلك “.
لم يدم الانتظار طويلا فقد حضَر الطّبق المنتظر، … و كان غنيا و جميلا كذلك انخرط الجميع في أكل ساده صمت طويل، فالجوع كان سيد الموقف.
بعد استراحة قصيرة، اقترح الآسفي المشي تسهيلا لهضم هاته البقايا الرائعة، وهو يستنكر البذخ الذي كان يعيشه حكام المنطقة، والذي جعل من بقاياهم طبقا لإطعام فقراء المدينة عوض التوزيع العادل لهاته الأطعمة على الساكنة، قبل أكلها، والكارثة هي أن هاته العادات لازالت قائمة في الشرق … باختلاف وحيد وهو أن البقايا لم تعد توزع على الفقراء، بل ترمى في صناديق القمامة …
تدخل العربي قائلا : لتجاوز هذا الاختلال، سنَّ اليابانيون قانونا يغرّم بموجبه نقدا من طلب طبقا في مطعم، ولم يستطع إكماله، و من سولت له نفسه رمي بقايا طعام في القمامة ، فالطعام حضِّرَ ليؤكل …
” هؤلاء هم المؤمنون بتعاليم الأديان السماوية، و ليس من جعلوا من بقاياهم تاريخا يدرس …” لاحظ الآسفي مُستنكراً… !!

الخيرالدا بالإسبانية la Giralda كانت مئذنة في المسجد الكبير على عهد الموحدين ، واليوم أصبح برجا لأجراس كاتدرائية إشبيلية

باحة الخيرالدا ، حيث قصر المعتمد بن عباد والكنيسة، مجمع تاريخي عرف الساهرون على رعايته كيف يجعلونه أكثر جمالا أثناء الليل فقد وضعوا مصابيح في زوايا مختلفة ، و بألوان جذابة زادت من جمالية المكان ورونقه … أما الجوق الفيلارموني الذي يؤثت المكان فقد كان يعزف أعرق السـمـفـونـيـات العالمية التي لم تكن لتخلو رفوف مكتبة الآسفي من أسطواناتها …
و حتى الموسيقى الأندلسية لم تغب عن المكان، أخذت ثريا ركنا عند مدخل الكنيسة، وهي تستمتع، تضرب يدا بيد، و تهز رأسها يمينا و يسارا مستمتعة بلحن أغنيتها المفضلة الرائعة ” شمس العشي ” بنغمة إسبانية متميزة .
بعد توقّف الفرقة الموسيقيّة عن العزف، أصرَّت على الصلاة داخل، الكنيسة فهي بيتٌ من بيوت الله الحاضر في كل الأمكنة فالإيمان أفعالٌ قبل أن يكون شعائر خالية من أي معنى روحي .
سامية ذكّرت الجد بوعده الحضور معها لسهرة الفلامنكو،
كان الإطار رائعا، والـراقصة الجميلة ذات النّظرات الشّزراء القـوية، تعبر عـن المقطوعة الموسيقية التي يؤديها العازف الـذي اتخذ مكانا قصيا عـلى الخشبة ، وترك الغجرية ترقص بهامة في السماء وبعينين تحدقان بقوة وتعبران عن رفض لواقع العبودية التي تؤرخ له الأغنية …
انبهر محمد كما ثريا … أما الأبناء فقد غلبتهم دموعهم ، وتسمّروا جميعا أمام اللوحة الرائعة .
عند نهاية السهرة سار الجميع في اتجاه المدينة العتيقة، متأمّلين نظافة الأزقة، وتميُّز طريقة الحفاظ على المعمار، حيث ساد انطباع خاص جعل الآسفي يعلّق بأسف شديد عن اللامبالاة التي يتم بها التعامل مع مآثر وطننا، فأزقة فاس ملئت بدعامات خشبية تمنعك حتى من زيارة المدينة القديمة، أما قلعة البحر بآسفي فقد انهار جزء كبير منها بفعل عوامل التعرية، و للأسف فالتّاريخ يسجّل أنّ الشعب الذي لا يحافظ على مآثره هو إلى زوال .
طبعا، استطرد العربي، فكل الأجيال تحاول التأقلم مع التطور في كلّ المجالات ،ولكنها إن لم تتشبع بالتراث الذي خلفه الأسلاف، ستضيع شيئا فشيئا، وهذا هو واقعنا المعاش بما فيه السياسي .
ما يحز في نفسي، يُضيف العربي، هو أننا و نحن نتمشى في هاته الأحياء نخال سكانها الأصليين ذهبوا للتبضع أو لزيارات الأهل ففي هذا الزقاق كان المعتمد بن عباد يتمشّى للوصول إلى متنزهه المفضل على ضفاف الوادي الكبير مرافقاً بمستشاريه يناقشون أمور الدين و الدنيا جيئة و ذهابا و في ذاك المكان تعلّق بالصبية التي صارت رفيقة دربه و فيها قال :

حب اعتماد في الجوانح ساكـن ♥ لا القلب ضاق به ولا هو راحل
فـما حـل خـل مـن فـؤاد خلـيلـه ♥ محـل اعـتـمـاد مـن فـؤاد محـمـد
* * * * *

المعتمد بن عباد ..الملك الاندلسي الذي أضاع إشبيلية وعاش أسيرا….

اعتماد هو الإسم الذي ظل المعتمد يذكره كناية و تصريحا حتى أصبح لقبه الرسمي في تاريخ دولة بني عباد، بعد أن كان قد عُرف بالظافر..واعتماد هي مهوى فؤاده التي أصبحت أم أولاده، كان شاعراً غنائياً شهيراً، خضع لحب الرميكة خضوعا أعمى … و تغنى فيها بشعره العذب الجميل . طبعا لم تخذله ورافقته في رحلة نفيه إلى أغمات ضواحي مراكش، و لازال قبراهما يؤرخان لحب خاص في زمن خاص فقد فضل المعتمد الاستنجاد بيوسف بن تاشفين حين أحس بالخطر المحدق بالأندلس، هـذا الأخير لم يترك الـفـرصة تـمـر دون الانقضاض على الإمارة، و نفي الأمير الذي كانت له خيارات كثيرة ، واختار أقساها فهو القائل : ” خير لي أن أقضي حياتي راعيا لإبل المرابطين عـلى أن أنهيها راعـيـا لخنازير الإسبان “.
تبارك اللّه عليك السي العربي، أظن أن الوقت قد حان للعودة إلى إقامتنا، فالليل شارف على منتصفه …؟ اقترحت ثريا …
كان الجواب صمتا، فعيون الحاضرين تنم عن رغبة جامحة في استمرار الحكي خصوصا أن الأجواء تغري بذلك، فقد اعتدلت الحرارة وخفت حركة مرور الراجلين .

التعليقات على فسحة رمضان (25) مغلقة

‫شاهد أيضًا‬

هشام الدكيك .. هناك أمور يجب تعديلها ونقاط قوة ينبغي استثمارها

أكد مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة، هشام الدكيك، الخميس بطشقند، عقب فوز أسود …