فسحة رمضان الحلقة 24
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى وآخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
بقلم توفيق الوديع
اعتقال الأبناء ….عزيز ، صلاح و أسماء .. !!
الوديع رفقة القائد عبد الرحيم بوعبيد ..علاقات مبنية على الوفاء والمبادىء والقيم
قبل أن يُتمّ أسبوعا واحدا على إطلاق سراحه – تحكي ثريا – قرّر الآسفي السفر إلى الرباط لزيارة السي عبد الرحيم، وحين حاولت إقناعه بتأجيل الزيارة ريثما يتمكن جسده من احتمال التنقل ، واجهني بصرامة و احتجاج قائلا :
” لم أتحرك منذ سنة، ووجب إعطاء تقرير عن المعتقلين و ظروفهم وهو ما ينتظرُهُ السي عبد الرحيم منذ مدة، ولمعلوماتك فقد اتصلت به و منعني من التنقل إلى الرباط ، و اقترح أن يزورني نهاية الأسبوع، إلا أنني أقنعته بوجوب تنقلي عبر سيارتي الخاصة حتى يدرك مراقبونا أن معنوياتنا عالية ، وأننا استأنفنا اشتغالنا بشكل عاد، و أن ترهيبهم لنا لن يمنعنا من المضيّ إلى الأمام .
آلالام معصميه ، تضيف ثريا، لم تكن تسمح له بتحويل مبدّل السرعة، ولهذا كان لزاما البحثُ عن مرافق لمساعدته إبّان سفره …
” لم أفهم يا جدتي، فمحول السرعة لا يحتاج إلى تحريك الأيدي فهو مرتبط بدواسة السرعة ويحول تلقائيا …” سأل أسامة باستغراب !
هذا في زمانكم، يا ولدي، أما سيارة جدك فقد كان محول سرعتها أفقيا كما جل سيّارات تلك الحقبة …
رحلتُ، استطرد الآسفي، على متن سيارتي، و كان مرافقي مُلتزما بتعليماتي في كل ما تعلق بتوقيت تحويل مبدِّل السرعة، حتّى وصلتُ إلى منزل سي عبد الرحيم . كان فرحه بمجيئي يتخلّله ذلك الّلوم الذي حذرتني منه ثريا، فقد ثار في وجهي و أنبني عن استهتاري وعدم الانتباه لحالتي الصحية التي كان واضحا أنها صارت حرجة .
لم أعر اهتماما للومه، و أصررت على تقديم عرض مستفيض عن الوضعية المحلية والوطنية للحزب وعن المتطلبات المادية لعائلات المعتقلين .
أما عن الوضعية المادية ، فقد بادر بتسليمي شيكاً موقعا على بياض طالبا مني وضع مبلغ المساعدة الذي أراه مناسبا لدعم عائلات المعتقلين ، مع تحذيري من عدم تجاوز رصيد حسابه البنكي ، ولم يجد أي حرج في إمدادي بآخر كشف لحسابه … وهو الحساب الذي لم يكن ليتجاوز الخمسة آلاف درهم … هو الوزير السابق لعدة مرات والمدبر لمكتب محاماة ذائع الصيت . كان الرجل حاسما في اخـتـيـاراتـه، فـقـد عـرف كيف يوفـق بـيـن اختيارات رفـاقـه السلمية مـنها والثورية، ودافع عن حق الجميع في الاختلاف، فآزر كلّ المعتقلين دون استثناء، و لم يتركني أرحلُ دون أن يؤكد مرّة أُخرى قائلاً :
” أنت فريد يا سّي محمد ، لك قوة معنوية عالية جعلتك أهلا لمؤازرة المستضعفين و ليس لنا منك الكثير في هذا الحزب … انتبه لنفسك، لزوجتك و لأولادك ”
هي الأخلاق النادرة التي يتحلّى بها أمثال ذلك القائد والتي لم أجد شبيها له فيها إلا أخي وصديقي عبد الرحمن ، الذي عرف كيف يدبر أزمات الحزب و الوطن .
هل تقصد جدنا الثاني السّي اليوسفي، تساءلت سامية ؟
بلى هو كذلك يا بنيتي …
لازال على العهد، ياجدّي، يزورنا باستمرار بالوزيس، و كلما حلَّ أسمعه يهمس لوالدي بأنه عندما يلج باب المنزل :يتراءى له كلُّ الراحلين، يقاسمنا ذكرياتكم الجميلة، بل هو الوحيدُ، الذي يحرص على زيارة مراقدكم الأخيرة كلما أحس باشتياق خاص …
عدت من الرباط، استمرّ الآسفي في الحكي، و كلي حماس في مؤازرة لعائلات الـمـعـتـقـلـيـن بزيارتهم و مساعدتهم ماديا ومعنويا، رغم أنّ المادي كان قليلا و ذلك لضيق ذات اليد .
كان هاجسي الأوَّل هو البحث عن مصير باقي المختطفين وعلى رأسهم عمر بنجلون، محمد اليازغي، و عبد العزيز بناني ، والذي علمت أنهم رُحّلوا إلى السجن المركزي بالقُنيطرة …
كان عمر قد اعتقل في ربيع 1973، بعد نجاته من الطرد الملغوم الذي وصله مطلع السنة والذي عرف كيف يبطل مفعوله بدهائه وتجربته بمركز البريد، و لم أكن أستسيغ إطلاق سراحي مع مستهل سنة 1974، و هو لا زال مختطفا و مصيرُ العديد من الإخوان لا زال مجهولا .
كانت جدَّتكم تحرص، كما سلف، على وضع الهاتف في حديقة المنزل حتى لا يزعجني رنينه المحتمل في الصباح الباكر، وإن حصل ، فقد كانت ترد بهدوء وبصوت منخفض … إلا ذاك الصباح الصيفي فقد ردت بهدوء أعقبته زغرودَة قويّة لم توقفها إلا هرولتي والأبناء نحوها، كانت ترددها عدة مرات … و لم تكن الساعة قد تجاوزت السابعة صباحا … كانت لطيفة على الطرف الآخر، تزف لها نبأ إطلاق سراح عمر … لحظة عاطفية بكل المقاييس … أخذتُ السماعة، خاطبت عمر …
” والله يتبعك لبلا آ لحْرطاني، على سلامتك، أنا جاي عندك دابا …”، وضعت السماعة، كنا مرتبكين بين فرح عارم وضيق غير مفهوم ، فالحدث وطني … والرجل مستهدف في حياته … !!
لم أكد أرتدي ملابسي وأحضر نفسي للخروج حتى دُقَّ جرس الباب … فتح توفيق وكان عمر على الباب برفقة لطيفة الأنيقة على الدوام، و التي كانت قد امتنعت … عن السماح له بالخروج وحيدا في ذلك الصباح الباكر و لو لزيارة ” الفقيه ” كما كان يحلو لها مناداتي .
” لن تسبقني آ لفقيه، فأنا من وجب أن أكون في زيارتك أيها الأخ الأكبر ” قالها و هو يحضنني بحرارة … دموع وعناقات متبادلة، و كان من حضر من الأبناء يتسارع لتحضير الفطور للضيف المتميز .
لم ننتش بذاك الإفراج والانفراج، استطردت ثريّا، حتّى حلّ خريف سنة 1974، و كانت الاعتقالات بالجملة في وسط الطلبة الشيوعيين، وفي صباح الأربعاء 6 نونبر1974 حضر شُرْطيٌّ وسلم لمُسَاعدتنا استدعاء يطلب حضور عزيز إلى مركز الشرطة بالمعاريف … عاجلا …
” لازال بإمكانك الفرار إن أردت و سأعرف كيف أتدبر أمري معهم ” قلت له و أنا أعيد قراءة الاستدعاء حتى دون أن أنظر إليه تفاديا لأي إحراج، كان الآسفي يستعيدُ ذكريات حديثه مع عزيز وسط حديقة المنزل
” لن أتركك تذهب مكاني فالاستدعاء بإسمي أنا …” ردّ عزيز بكل ثقة في النفس
و إذن هيَّا بنا …
رافقت ابني القاصر … و عدت من دونه …لقد طلبوا مني أن أتركه لهم و التزموا بإعادته إلى المنزل مساء …
حلّوا فعلا ذاك المساء، استمرّت ثريا، و كان الظّلام حالكا وعزيز ذو السبعة عشر ربيعا بين رجال أشداء … جاؤوا من أجل التفتيش عن ممنوعات … و لم يجدوا إلا كتبا و مجلات ثقافية و حسب …
“سيبقى معنا بعض الوقت، قال كبيرهم … و سنعيده بعد يومين على أقصى تقدير.”…
التفت عزيز نحوي و في عـيـنـيـه تـسـاؤلٌ غريبٌ و بحثٌ عن حلّ أخير … و بكل ما أوتيت من رباطة جأش قلت له :
” هيا يا عزيز، هي طريقنا وطريقك، اخترتها فسر فيها إلى النهاية ونحن معك في جميع الأحوال “.
رفع الطفل، الذي صار رجلا في تلك اللحظة، رأسه عاليا، و سار على الطريق الذي اختاره بكل جرأة وشجاعة …
أما أنا فقد أخذت زاوية من زوايا المنزل المظلمة متكئة ورحت في بكاء صامت .
الآسفي لزم مكتبهُ طول تلك اللّيلة لم ينم، وعند الصّباح طلب كأسا من الشّاي وطلب مني شيئاً من الانتباه … و سلمني الأبيات التي أوحتْ لهُ بها الصّاعقةُ التي أصابتنا حيثُ قال :
ولدي السّجـيـن أسامعٌ فأُنادي ۩ روح الـتّحـرُّر فـيك والأمـجاد ؟
آلـيـت إلا أن تـكـون مـُناضلا ۩ صلـب العـقـيـدة سـامي الأبـعـاد
تَحـيـى مآسي أمّـة مـسـحوقـة ۩ تهوى التّحرُّرَ من لظى الأصفاد
إلى أن يقول :
دربي و دربُك في الحياة مُلغّمٌ ۩ شـأن المغـاور يا رفـيـق جهادي
تبغي الحياةَ عـدالـةً محـروسةً ۩ تـنهـارُ فـيها مـطـامـحُ الأوغــاد
اللـّه للـشّـهــم الأبـيّ فـي أُمّــة ۩ تـطـغى عـلـيها سـفـاهـةُ الأحقاد
* * * * *
لم يظهر لصلاح ولا أسماء أيّ أثر طوال اليومين اللذيْن تليا اعتقال عزيز إلا من زيّارة لمجهول طلب من مساعدتنا إخبارنا أنّ الغائبين بخير وهما مُختفيان عند بعض الأصدقاء .
” هذا هُراءٌ و غير منطقيّ، من جاء بالنبأ ما هو إلا مخبر يريد طمأنتنا خطأ ”
كان ردّ الآسفي عنيفا عليّ ، تدخّلت ثُريّا، فقد كُنتُ متشبّتة بأرفع خيط يمكّنني من الاطمئنان على فلذات كبدي …
مساء الثامن من نونبر أطل أوّلُ حفدتنا … هلَّ يوسف إلى الدنيا إلى الحياة ليعطي الأمل في فجر جديد، وليزيح ولو قليلا من النكد والحزن الذي تأبط العائلة،
أما الجدّ، فقد أصر على تخليد هذا الحدث بقصيدة معبرة … قال في مطلعها :
جـئـتَ تـرنـو كـالـسّـنـا ♥ الـحالـم ما بـيـن الــورود
جـئت تـسعى كـالهـوى ♥ الـعاطـر ما بـيـن النّجـود
إلى أن يقول :
أنـــــت لـلأُمّ رجـــــاءٌ ♥ بـاســمٌ يُــذكـي الـحـنـيـن
أنـــت للــوالــد رمـــزٌ ♥ خـالــدٌ عــبــر الــسّـنـيـن
أنـــت للـجـدّة ســلــوى ♥ تـُذهــبُ الـحـزن الـدّفـيـن
أنــت للــجــدّ قــصـيــدٌ ♥ صـادحٌ رغـــم الـشّـجـون
و لن يُنه قصيدتهُ دون أن يوصيه :
فـلـتـَـكُـن للـجـيــل نــورا ۩ للـمـسـيـرات العـظـيـمة
و لـتكُـن رمـزا لـعهـد را…..۩…..فــــض كُــلّ هــزيــمــة
و لتسر في موكب اﻠـﻨـﺼ———ر الذي يـمحو الجـريـمة
إنّ عــصــر الـبعـث هـذا ۩ فـلـتـكـن أنــت زعــيـمـه
و اتـخـذ دربــك مـا بـيـن ۩ الـــمـــدار الــــسّـــائـــر
عـانـق الـصّـعـب وساهـم ۩ بصمود في الكفاح الدّائر
فـحـيـاةُ الـحــُرّ إعــصـارٌ ۩ على لـيل الجحود الجائر
* * * * *
كنت ممزقة – تحكي ثُريّا – بين فرح الجدة وكمد الأم التي لا تعلم شيئا عن أبنائها الثلاثة …، فقد بلغنا اعتقال صلاح وأسماء كذلك ، وصاروا ضمن مجهولي المصير .
لم تنقض ثلاثةُ أيّام على عودتي إلى الوزيس، بعد مُرافقتي لآسية طول فترة نفاسها حتى كانت الأخيرةُ على باب المنزل ومعها أسماء … التي عادت … بعد أربعين يوما من الغياب …
لم أُعر لهذا اللقاء كثير اهتمام، تدخّل الآسفي مُوضّحا، فقد كُنتُ حريصا على عدم التّهويل حتى أجعل أمر الاختطاف و الاعتقال عاديا، مُقارنةً مع ما عشناهُ في المُعتقل المُسمّى بالكوربيس .
حكت أسماءُ عن أمور دقيقةً وحسّاسة، تأكّدت أنّ صلاحا و عزيزا يوجدان في درب مولاي الشريف، فقد سمعت صوتهُما يرُدّان على نداء الحُجّاج … و أكّدت أنّ السرفاتي أبراهام لاقى من العذاب أشُدّه حتّى أنّهُ لم يعُد يَقْو على المشي، والغريب أنّ من بين الجلادين كان وطنيّون … ففي أحد المساءات وضع بين يديها، حاجٌّ من الحرّاس، بعض الفواكه و كأس حليب هامسا
” هذا من صديق لوالدك السي الآسفي “.
لن تنسى أسماء طول حياتها طريقة اعتقالها الهوليودية، ففي صباح الثامن من نونبر 1974، استفاقت مفزوعة على صوت ارتطام عنيف، و حين هبّت من غرفة نومها، لاستقصاء السبب، تفاجأت بعناصر مدجّجة بكلّ أنواع الأسلحة تطلُبُ منها الاستسلام …
طلبَتْ منهم السماح لها بارتداء ملابسها … و سلّمت نفسها
لم يكن الآسفي قد استرد عافيته بعد، فالحول لم يكتمل، بين إطلاق سراحه و اعتقال فلذات الكبد ، وهو يعلم جيدا قساوة أمكنة الاختطاف .
واظب، جدّكم، على زيارة آسية في مكتبها بالمحكمة الإبتدائية، ممنيّا النفس بانفراج أو إطلاق سراح … وفي أحد الأيام المشمسة، صادف المتنبي على درج المحكمة ، تلعثم الأخير ولم يقو على مواجهة الآسفي الذي بادره بغضب شديد معاتبا الضابط المقاوم …” لماذا تركتم الصغار وثريا بالمنزل، كان حريًّا بكم و رؤسائكم أخذنا جميعا إلى حيث الأبناء … فنحن نتقاسم نفس الأفكار والأهداف، وهذا تصريح و اعتراف رسميّ وجب تبليغه بكل المسؤولية التي تتحمل كضابط مخابرات !!! و لعلمك فأصغر أبنائي واسمه توفيق، لا يفتأ يردد بكل عفوية بأن هويته بندقيته …واعلموا أننا لن نستسلم لكم أبدا …”
راح الضابط، مهرولا وكاد يتعثر، وهو يحاول تفادي الكلمات التي كانت كالجمر، تحرق قائلها وسامعها …
عمر بنجلون، لم يتخلّف عن مؤازرة العائلة، طبعا حضر والتزم بالدفاع عن هؤلاء الشباب و على رأسهم عزيز و صلاح، فقد كان مؤمنا بحق الاختلاف في وجهات النظر و التعبير عنها .
نضجت الأفكار واتضحت الرؤى … و تقرر القطع مع الماضي، تُضيف ثُريّا، و ظهرت بوادر الانفصال والتأسيس لحزب جديد، هو الاستمراريّة، حزبٌ سيقول كلمته على الساحة الوطنية والدّوليّة كذلك إنّهُ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، وتحضيرا للمؤتمر الاستثنائي تكلّف عمر بنجلّون بإعداد التقرير الإيديولوجي، و قرّر جعل صالون منزلنا مكانا ” آمناً ” لصياغته .
في أحد الصباحات حلّ عمر بالمنزل ولم يجد إلا المساعِدة التي كانت تعرف عمق العلاقة التي تجمعه بالعائلة، فلم تمانع في طلبه الدخول إلى الغرفة المخصصة للضيوف …
استغربت الشابّة طلبات الضيف فقد البدء في تغيير بعض أثاث الغرفة من أماكنها ورتب ركنا جعل به لحافا أرضياً، و طاولة وضع عليها بعض الأوراق والأقلام و حتى آلة التسجيل .
إلاّ آلة التسجيل يا سيدي ف” عزيزي ” لا يسمح لأي كان بلمسها .
هي لي، يا بنيتي، و إن مسك سوء من المسمى ” عزيزك ” فأنا من سيتكلف بالأمر، و الآن هل تسمحين بتحضير كأس شاي …؟ … ومن فضة من فضلك … و جلس يخط …
حين عدنا لم يعر الآسفي أي اهتمام للتغيير الذي طال الغُرفةَ، ولا حتى لاستعمال آلة التسجيل، دون إذن، بل توجه نحو الضيف قائلا :
هل يلزمك أي شيء؟
هنا توجهت المساعدة نحوي مستغربة : أحبيبتي … من هو عمر هذا؟ هل هو رئيس عزيزي في العمل ؟
أجبتُها باقتضاب … هي علاقة خاصة يا بنتي …
سهام الطفلة رافقت والدها في زياراته التحضيرية التي أضحت يومية بحكم مسؤولية إتمامه للتقرير في أسرع وقت، و كانت حديقة المنزل فضاء للعب في انتظار حضور لطيفة لأخذ الطفلة الصغيرة … العربي حرص على حسن إقامة سهام، وحمايتها من أيّة تعثرات محتملة، و في لحظات استراحة عمر النادرة كان يفضل المشي حول الحديقة ، ولم يكن ليغيب عنه هذا الاهتمام الملحوظ من الشاب، يلتفت نحوه منكتا ” واخلّي عليك سهام آ سّي العربي … و ڭابل قرايتك راها ما غاطيح ما والو …”
عُقد المؤتمر الاسثتنائي، و مرّ في أجواء بنّاءة و كان ناجحا بكل المقاييس .
“علينا التنقل كثيرا يا محمد للتأسيس لتنظيمات قوية … وبما أن أولادك لازال مصيرهم مجهولا فقد قررنا إعفاءك من كثرة التنقلات “… كان عمر قد تكلّف بإبلاغي قرار القيادة .
” من أنتم حتى تقررون إعفائي دون استشارتي و حتى استشارة ثريا … سـأتـنـقـل مـعـكـم من أجل هذا الوطن، فلا مجال للاستسلام و سأستمر في النضال إلى النهاية .” و كذلك كان . جـلـنا البلاد طولا وعرضا … منظمين للكتابات الإقليمية عـبـر ربوع الـوطـن و لم يفرقنا إلاَّ رحيل عمر الدموي و المباغث.
” إذن وقع تحوّلُ سياسي و وضوح في الاختيارات سيعطي، حتما، تقاربا مع السلطة و بناء مغرب كما أردتم؟ ” سأل أسامة جدّه .
” اعتقد أنّ التوافق تأخّر كثيرا، بحكم أنّ أعمامي ظلّوا مع ذلك رهن الاحتجاز ” عقَّبت سامية .
بالفعل يا أبنائي، وسيكون ذلك موضوع حكينا التّالي، و الآن أقترح عليكم زيارة لأحياء المدينة والبحث عن مطعم لتأمين البطون ضد الجوع، و لو بقمعه، فالأكل اللذيذ هو القادر على مساعدتنا على الاستمرار في استرجاع ذكرياتنا … وا راه هلكاتني هاد البرغوثة دْ سامية…
الوديع الآسفي رفقة زوجته ثريا ونجلتيه أسية وأسماء وأحفاده يوسف وغسان الشهبي مطلع سنة 1975
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…