فسحة رمضان 16
ذكريات عبرت ...فأرخت .. أنصفت وسامحت
هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي …في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما ” اٌلْقَدَرُ” كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ ” أَبْطالٍ ” بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَ اٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ “لَهيبِ الصَّهْدِ” جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ و انْكِسارَاتِهِ ، وَ جِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، و عَبْرَ دِفَّتَيْهِ ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ …بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَ الأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ …وَ عَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ ، و أَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي “توفيق الوديع ” دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ و مَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ و البَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَ تَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ …
أعدها للنشر منير الشرقي
زغرودة الإقالة من المهام الرسمية … !!
بقلم توفيق الوديع
السنوات التي تلت رجوع الملك كانت عصيبة على كل من كان يملك حسا وطنيا صادقا، فمقاومة التغيير كانت قوية حدّ الاغتيالات …!!!
لن أخوض كثيرا في هذا الموضوع فأظنكم ستجدون مؤلفات كثيرة وبحوثا عميقة … و سأكتفي بالحكي عن مواقف تاريخية بصمت حياة عائلتنا .
لم تنقطع علاقتي بالملك بعد ذلك الاستقبال التّاريخي، فقد تمّ تعيني قائدا على مجموعة من المناطق، وكـان يحرص في زياراته لها ، أن يـسـتـقـبـلـني و يحدّثني على المشاريع التنمويّة، و خصوصا على سير سياسة استرجاع أراضي المُعمّرين و معايير و كيفيّة توزيعها على بُسطاء الفلاحين، و كان ذلك يُشكّل هاجسهُ الأوّل .
كنت أحرص على قضاء عطلنا الصيفية على شاطئ الوليدية، بمُحاداة القصر الملكي، و في إحدى الأماسي الجميلة كنت وثريا على الشاطئ نستمتع ببعض اللحظات الحميميّة ، و أمامنا آسيّة، أسماء، صلاح و خالد في لهو و ركض، حين اقتربت منّا آسيّة وهي تُردّد :
مي،مِّي،مِي … المليك … المليك …!!!
كانت تركض في اتجاهنا عائدة، مسرعة هي التي استأذنت والدتها، قبل لحظات، السماح لها بمرافقة إخوتها في رحلة مشي على شاطئ البحر، لم تكن متيقنة من الشّخص، فصورته لم ترها إلا على بعض الصحف التي كنت أحملها عند عودتي من العمل .
و بالفعل كان اللقاء العفوي … كان الملك … هناك
وضع الأميرة أمينة، وبعد سلام حار علي وعلى ثريا، حمل صلاح بين ذراعيه و ائتمن أسماء و آسية و خالد على الأميرة و سار على الشاطئ يُحدّثُهم :
” والدكم رجل مقدام، وطني حر وأصيل … هو عصبي و منفعل، انفعال أهل البادية الجميل … سيروا على نهجه وخطاه فربما التقينا، أو اختلفنا … و لكننا حتما لمصلحة الوطن ماضون …” … كانت الوصيّة التي علقت بذاكرة الأطفال طول حياتهم …
محمد الوديع الآسفي أثناء تعيينه قائدا بعد الاستقلال بمدينة الخميسات تكريما لنضاله الوطني
كان اللقاء عائليا وحميميا، وكالأصدقاء راح كلٌّ إلى حال سبيله، وكان آخر لقاء جمعني به … وعند رحيله، صاغ صلاح أولى قصائده و هو بعد ابن التّاسعة فقد فقدت الأسرة بأجمعها ملكا، أخا و صديقا …
حين عُيّنت، قائدا ممتازا على عدة مناطق، كان همي الأول هو العمل على استعادة أراضي المعمرين، و توزيعها توزيعا عادلا … طبعا كانت القوى المناوئة لهاته القرارات بالمرصاد … ولهذا تمت إقالتي في إحدى الصباحات الربيعية، و كان الاحتقان قد بلغ أوجه بين الحزب المنفصل عن محافظي المملكة ومحيط الملك …
ذات صباح، و أنا أستعـد للاستيقاظ سمعت زغـرودة قـوية أطـلـقـتـها ثـريا، و على غير عادتها … اقتحمت غرفة النوم ، وهي تكاد تطير فرحا، فقد وصلها للتو نبأ إقالتي من مهامي كقائد ممتاز .
ضحكت سامية والتفتت نحو جدتها سائلة :
” كيف لك أن تزغردي و تطيري فرحا و جدّي يقال من مسؤوليات تعتبر سامية كإسمي !!! والبعض يتمرغ أرضا من أجل الوصول إلى أقل منها ؟”
” لم تكن الزغرودة التي أطلقتُ حين وصلني النبأ إلا تعبيرا عن فرج طالما حلمنا به، فقد كان وضعنا نشازا : جدُّك الذي أخذ على عاتقه النضال من أجل المساواة في الحقوق والواجبات بالنسبة لعموم الشعب، لم يكن من الممكن له العمل من داخل مؤسسة لا تتماشى سياساتها و تلك الأهداف، كنت أشعر بأنه في وضعية نفسية ممزقة … و لهذا حين هاتفني وزير الداخلية لإخباري بالقرار لم أتمالك نفسي، كنت فرحة من أجله ومن أجل مستقبلنا، رغم يقيننا بأننا كعائلة صغيرة و كقوى وطنية وُضعنا أمام المجهول …
بعد تلك الإقالة، ولأنني كنت على يقين بأن المقبل من الأيام سيكون عصيبا، قررت مع نفسي البحث عن عمل للمساهمة الماديّة في مالية الأسرة، استمرّت ثريّا تحكي : حتى أضمن لجدكم حريته واستقلاليّته في النضال من أجل مغرب كما كنّا نحلم به خصوصا و أن وضعيتنا أصبحت أكثر هشاشة، فتعويضاته عن القيادة كانت لا تكفينا فهو لم يكن، يوما، من المدّخرين …
حين فاتحته في الأمر، لم يمانع، بل استحسن و شجعني قائلا :
” أشكر الظروف التي جمعتني بك زوجة ورفيقة، همُّها من همي، فأنتِ قدوتنا، أظن أن العمل خارج المنزل سيمنحك تجربة جديدة رغم صعوباته، وكما تعلمين فنقطة ضعفي هو المساهمة في العمل المنزلي، و لهذا ستتضاعف مسؤولياتك، و تتعبين أكثر، و بالنّسبة لي فمنذ أول لقاء لي بوالديك الحاج أحمد و للا غيثة التزمت باحترام قراراتك ولك أن تتخذيها بكل حرية ”
استقرارنا بالبيضاء لم يكن هينا، استمرّت ثريّا، فقد عرفنا التنقل عبر عدة منازل في أحياء مختلفة، من حي سباتة ثم بولو وأخيرا الوازيس المستقر الأخير … وحين علم الأستاذ المختار السوسي، باستقرارنا النهائي بالعاصمة الاقتصادية، أصرّ على زيارتنا وتهنئتنا ، وقد عرفت تلك الزيارة إطلاقي للزغرودة المفضلة لجدكم خصوصاً بعد الجفاء الذي عرفته علاقتهما منذ قَبل الأستاذ ، الاستوزار، دون شروط، كوزير للأوقاف في أوَّلِ حكومة بعد الاستقلال ، وكان الآسفي قد انتقد أستاذهُ، انتقادا لاذعا، معتبرا أن المنصب لا يناسبه هو الفقيه الرَّافض للطقوس المخزنية .
محمد المختار السوسي أثناء تعيينه وزيرا للأوقاف من طرف المغفور له محمد الخامس
كان اللقاء الأسري هو الأخير بين تلميذ و أستاذ تعلقا ببعضهما البعض، فقد لقي الفقيه حتفه بعد أيام في حادثة سير مفجعة .
بالفعل يا ثريا كان رحيله مؤثرا على العائلة ككل، و لم يخفف عني لوعة فراقه سوى صديقي و رفيقه الحاج عمر الساحلي الذي قاسمني مبادئ إنسانية استمرت طول حياتنا …
كان التأثر باديا على الآسفي و هو يستعيد ذكريات أساتذة، و رفاق من عملة نادرة .
بداية العقد السادس سيعرف المغرب أحداثا عنيفة ، فصيف 1963 الساخن سيعرف مداهمة الشرطة لمقرات الحزب واعتقال عدد من المناضلين ، وطبعا كان الآسفي من بينهم، تعود ثريا للحكي،ودام اختطافه مدّة ليست باليسيرة و خلالها كان لقاء صلاح، وهو لم يُتمَّ بعدُ سنه الثانية عشرة بوالده بدرب مولاي الشريف في إحدى زيارتنا النادرة …
بعد عدة شهور، و ذات صباح دُقَّ جرس الباب ، و كان جمال ذو الأربع سنوات على الباب، في استقبال شيخ حافي القدمين بلحية كثة وشعر أشعث، كان الطفل تحت وقع المفاجأة المرعبة … صرخ باحثا عن حضني للاحتماء من المجهول الذي اقتحم الخلوة العائلية … و الذي عرفتُ من نظراته أنه الزوج الذي عاد من حيث لايدري فما كان مني …
” ما كان منك إلا أن زغردت كعادتك في مثل هاته المواقف فقد جُبلت على المواجهات القوية ” … قاطعتها سامية ضاحكةً
نعـم بنيتي … زغـردت بأعـلى صوتي لأنه عـاد بهامة مرفـوعة كعادته … و لأن على الباب مخبرون ينتظرون رد فعلنا، و نحن تحت وقع مفاجأة عودته في حالة صحية حرجة، هُزالٌ خطيرٌ، أظافرُ مُقتلعةٌ … و مع ذلك وجب إبلاغهم أن عزيمتنا لن تنال منها الضغوطات النفسية ولا علامات التعذيب الجسدي .
عاد الآسفي إذن إلى حضن أبنائه، استعاد عافيته ، و بعد أيام كانت المسؤوليات الحزبية في انتظاره …
بدا محمد مبتسما … ربت على ظهر الحفيدة الحريصة على تتبع الحكاية وقال :
” لن تكون زغرودة جدتكم بعد الإفراج عني سنة 1963 هي الأخيرة، بل ستكتشفون عبر هذا الحكي أنها عرفت كيف تطلقها تحديا و إحراجا للمراقبين في مناسبات عديدة “… !!
مدينة الجديدة تستبشر بعاملها الجديد: القيادة بالحكمة والعزيمة
في خطوة تبعث الأمل والتفاؤل، حظيت مدينة الجديدة بتعيين عامل جديد، هو السيد «امحمد العطفاوي…